الأهرام
نبيل عمر
عبد الناصر.. شماعة الفاشلين!
نحن مجتمع الحسابات القديمة والعادات القديمة والأفكار القديمة، وأي قديم هو مجرد تاريخ، تجربة انتهت، وإذا توقف مجتمع عند هذا التاريخ وتلك التجربة فقد حكم على نفسه بالتخلف الشديد والخروج من عصره، فالزمن والتقدم مثل قطار طائر، من لا يلحق به، يتراجع ولا يثبت في مكانه، لأن المسافة بينه وبين ركاب القطار تتسع كل لحظة بعشرات السنين من المعرفة والرقي.

هذه حقائق بسيطة، كتبها عالم الاجتماع الأمريكي العبقري «ألفين توفلر» فى سلسلة من ثلاثة كتب صدر أولها في عام 1970 «صدمة المستقبل» ثم «الموجة الثالثة» وأخرها «تحول السلطة» أي أن العالم أدرك مدى التغييرات الهائلة التي أحدثتها المعرفة في بنية حياة الناس اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا قبل أربعين سنة، بينما يخرج علينا قوم منا لا يكفون عن محاكمة الماضي البعيد ويقولون «إن الأزمات التي تعيشها مصر الآن عمرها أكثر من ستين سنة».

طبعا يستهدفون الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وبدأوا الهجوم عليه قبل أيام من حلول مئوية ميلاده. وكتب أحدهم: «إن سلسلة السياسات الخاطئة التي اتخذها نظام عبد الناصر هى التي انتهت بنا إلى هذه الأحوال التي ندفع ثمنا باهظا للخروج منها الآن». وضرب مذيع مثلا بقرار تفتيت الأرض الزراعية، وبالطبع كان يقصد قانون الإصلاح الزراعي، كما لو أن تفتيت هذه الأرض هو سبب زالتدهور العامس الذي أصابنا من أول عبور الطريق إلى سينما السبكي وأغاني قلة الأدب على اليوتيوب.

ربما تسبب تفتيت الارض الزراعية في بعض مشكلات الري والزراعة، لكن جمال عبد الناصر مات في نفس عام ظهور كتاب «صدمة المستقبل» لألفين توفلر، أي منذ 47 سنة، فأين كان المصريون في نصف قرن من الزمان، ماذا فعلوا بحياتهم خلالها؟، هل دخلوا الكهف وراحوا في سبات عميق؟، هل أصابتهم الصاعقة فغاب عنهم إدراك الواقع وتحدياته وسبل حل أزماته حلا ناجعا؟ صحيح هم انتصروا على إسرائيل في حرب أكتوبر العظيمة.. لكنهم لم يكملوا صناعة المعجزة بتحويلها إلى «طاقة» عمل حضاري شامل.

هل من يُحمل عبد الناصر أسباب تخلفنا الحالي راجع تاريخا لدول أو قرأ كتابا في الحضارة؟

ماذا فعل المستشار النازي أدولف هتلر بـ«ألمانيا» حين زج بها في أتون حرب عالمية؟ هل توقف الألمان عند حطام الحرب العالمية الثانية وذابوا في تداعياتها وتوسعوا في نتائجها الكارثية وظلوا يهيلون على هتلر بؤس حياتهم؟، على العكس تماما أعادوا بناء ألمانيا وجعلوا منها دولة كبرى في أقل من عشرين سنة، بل فازوا بكأس العالم لكرة القدم عام 1954 بعد هزيمتهم النكراء بتسع سنوات فقط وهم بالكاد يجدون قوت يومهم.

واليابانيون أنفسهم بقرار غريب من نظام عسكري يقوده إمبراطور «شبه إله» جرجروا الولايات المتحدة العملاق النائم بين المحيطين الأطلنطي والهادي إلى الحرب ضدهم بالهجوم الأحمق على بيرل هاربر، فضربتهم أمريكا بالقنبلة الذرية وأزالت مدينتين كبريين من على ظهر الأرض، ولم يتوقف اليابانيون يعضون أصابع الندم على قرار ليس خاطئا فحسب، وإنما كارثة تتجاوز كوارث الطبيعة من زلازل وبراكين وأعاصير، وعملوا منذ الساعة التالية لتوقيعهم وثيقة الاستسلام للأمريكان على إزالة وترميم الدمار وإعادة البناء. ومثل ألمانيا واليابان عشرات التجارب الإنسانية منذ بزوغ الحضارة الفرعونية إلى سيادة حضارة العم سام، فكيف لمجتمع يقال إن رئيسه اتخذ قرارات خاطئة لم يستطع أن يصلحها أو يتجاوزها في نصف قرن من الزمان، بل يقول البعض إن عيوب هذه القرارات تضخمت حتى أنتجت حياة خاطئة في كل شيء تقريبا؟!

أي نوع من المجتمعات هذا؟ وأي قيادات جلست في مراكز صناعة القرار بعد رحيله؟ وأي نخبة ثفافية وسياسية واقتصادية واجتماعية تقوده وتعلمه وتصحح خطاه؟ قطعا..أي محاولات لربط عبد الناصر بما نعانيه الآن هي نوع من البذاءة الثقافية، وتشبه حجج البليد الذي هرب من الإجابة عن سؤال الحياة وراح يمسح التختة، بالرغم من عدم وجود كتابات عليها. وبالطبع لا أريد الدفاع عن عبد الناصر، فالناس البسطاء دافعت عنه بما فيه الكفاية، ولست ناصريا ولم أكن يوما، لكنني أحبه مثل ملايين المصريين، فبسببه عرف هؤلاء الملايين أن للحياة أوجها للعدالة حرموا منها قرونا طويلة: التعليم والملكية. وأذكر أن زميلة لي من عائلة باشوات عريقة، كانت تتفاخر بأملاك عائلتها الممتدة بالكيلومترات طولا وعرضا والتي انتزعتها الثورة، فكنت أقول لها إن الأرض لم تكن أبدا ملكا للمصريين منذ مئات السنين، كانوا عبيدا لها، يشتغلون فيها بلقمتهم الجافة، وأول من سمح بتمليكها هو محمد على، حين وزعها على كبار ضباطه ومعاونيه والمخلصين له، ولا يوجد بين المصريين عامة عائلات لها تاريخ في الثروة والألقاب الارستقراطية كالإنجليز، فالمصريون كانوا فقراء أو مستورين إلا نادرا، ونهب الحكام الأجانب والأمراء والمماليك ثروات بلادهم.

وَعَبَد الناصر هو أول من نشر فكرة الملكية بين فقراء المصريين وبسطائهم. وأيضا هو من توسع في إدخال أبناء الفلاحين والطبقة الوسطي الدنيا إلى التعليم العالي، ليتخرجوا منه أطباء ومهندسين وقضاة وأصحاب أعمال وغيرها، ومات ولم تكن مراكز الدروس الخصوصية قد افتتحت، والشهادات الجامعية كان مُعترفا بها في كل أنحاء العالم.

هذا زمن لا يجوز محاسبته بأثر رجعي، فعبد الناصر ابن زمنه وبيئته الإقليمية والدولية، زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية والعالم مشتت بين كتلتين، الكتلة الشرقية فيه تمثل أكثر من ثلثي سكان الأرض لا تعرف الديمقراطية والحريات العامة، وهذا ليس دفاعا عن الاستبداد والديكتاتورية، ولا يمكن، ولكن ينبغى أن نفهم حقائق العصر الذي حكم فيه عبد الناصر.

ويبدو أن تحميل عبد الناصر أسباب التردي الذي سقطنا فيه، هو طوَّق نجاة أو ممر عبور آمن لأنظمة فشلت في إخراجنا من هذا التردي، ومؤكد أن له أخطاء في حجم زعامته، ولا نستطيع أن نغفر له هزيمة يونيو 1967، وأنه وقع في الفخ المنصوب لمصر دون حسابات واجبة. نعم لعبد الناصر أخطاء في زمانها لكن ليس بابتداع أسباب بالية لأزماتنا نخرج من الكهف.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف