المصريون
عبد العزيز محمد قاسم
*آثارنا الإسلامية.. ورؤية 2030*
قبل حوالي شهر ونصف، كنت مع أحبة لي في المدينة المنورة، وجال بنا زميلٌ عارفٌ بالآثار بمواقع إسلامية، بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأتذكر حسرتنا عندما وقفنا عند بئر “غرس”، الذي كان برغم الشبك الحديدي الذي أقامته هيئة السياحة؛ بهيئة لا تليق، فبقايا علب المشروبات الغازية والأطعمة كانت متناثرة بشكل صادم ومقزز، أطارت عنا روحانية قصة هذا البئر، وعذوبته، ووصية نبينا الكريم بأن يغسّل من مائه إن مات.
الحسرة تجدّدت وقتما أتينا ساحة “أحد” حيث تلك المعركة الخالدة في تاريخ الإسلام، والتي أنزلت آيات كريمات تتلى ليوم القيامة حيالها. عادت بي الذاكرة وأنا على جبل “الرماة”، كيف كان أكثر علوا بكثير مما انتهى له، وكيف كنا نصعده أبان فترة الجامعة بمشقة، نتجول في بقايا ثكنة قديمة فوقه. نجد الجبل اليوم يتآكل، ولربما سيتساوى إلا قليلا مع الأرض بعد زمن بسيط.
طرحت من سنوات طويلة في ملحق “الرسالة”، ولاحقا في برامجي الفضائية؛ موضوع الآثار وأهمية المحافظة عليها، وأنها تراث إنساني وإسلامي، يربطنا بتاريخنا المجيد، وألفيت كثيرا من رموز التيار الديني يؤيدون ذلك، بيد أنهم لا يجرؤون على المناداة بها، خوفا من الصوت العالي في الساحة الشرعية الذي يقول بأنها ستفتح باب الشركيات والبدعيات التي سيقع فيها الزوار، خصوصا من إخوتنا من دول العالم الإسلامي.
كان ضيوفي من المؤيدين لتطوير هاته المواقع والآثار يسوقون لنا ما قاله التابعي الجليل سعيد بن المسيب، وقتما قام عمر بن عبدالعزيز بهدم حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، فبكى ابن المسيب وقال: “لو تركتموها حتى يرى الناس كيف يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم”.
كانوا يوردون ما روي عن عبدالله بن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهما- أنّه قال: “كان أبي سعد بن أبي وقاص يأخذ بأيدينا أنا وإخوتي، يوقفنا على مشاهد رسول الله -أي مواقع الغزوات- وآثار رسول الله، فضلا عما قاله علي بن الحسين: “كنا نُعلَّم مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- كما نعلّم السورة من القرآن”.
كان ضيوفي هؤلاء يسوقون لمعارضيهم الآية الكريمة التي تندبنا بزيارة مواقع الأمم السابقة للعظة والذكرى: “قل سيروا في الأرض ثم انظروا”، فيما كان مخالفوهم –بما أسلفت- يردون بالخوف على تفشى الشركيات والبدعيات، وأنها ستكون بابا لمثل هذه السلوكيات المأمورون نحن شرعا بمحاربتها، لا سيما أننا في بلد العقيدة والتوحيد، وأننا غير مأمورين بالتعبد أصلا بمثل هذه الآثار.
نحن اليوم في واقع وعصر جديد، لأتوسم أن يعيد أحبتي الشرعيون موقفهم، ومناقشة هذا الموضوع بكثير من العقلانية واستشراف المستقبل، فرؤية المملكة 2030 تروم أن يصل عدد المعتمرين الذين يبلغ عددهم اليوم 8 ملايين، إلى 30 مليون معتمر في العام الواحد، بل وأن نضاعف عدد الآثار المسجلة في اليونسكو، وهؤلاء ضيوف الرحمن ولا شك، بيد أنهم سيكونون أحد مصادر الدخل القومي لنا، ومن حقهم علينا أن يجدوا بنى تحتية كاملة مهيأة تليق باسم المملكة. هؤلاء الذين سيأتون للعمرة، لا يريدون المطاعم والملاهي وأماكن اللعب، بل يحرصون على زيارة هذه الآثار، وبدلا من هذه الجولات التي يقومون بها اليوم بشكل عشوائي، ويرون أماكن يتحسّرون عندها –بما حصل لي ورفقتي- ويصدمون من حالها، وبدلا من أدلّائهم الذين يُدخلون الأساطير والخرافات -وربما بعض الشركيات- في أحاديثهم؛ أليس من الأولى والأجدر أن نقوم نحن بضبط الأمر، وتطوير هاته الأماكن بطريقة تليق باسم المملكة اليوم، وتقديم هذه الشروحات للأماكن عبر وسائط وتقنيات متطورة، نترجم لهم فيها أماكن هذه المناطق التي يزورونها، بكل لغات العالم الحية.
انظروا لمسجدي “قباء” و”القبلتين” مثلا، عندما قامت الدولة -حفظها الله- ببنائهما بطريقة حديثة؛ تبددت أوهام الشركيات والبدع التي كان يخاف منها حماة العقيدة -جزاهم الله خيرا- ولم يحدث ما تخوفوا منه، فلماذا لا نبادر إلى تبني مثل هذه الأفكار، والمناداة بتطوير الأماكن المهمة كـ”غار حراء” مثلا، وجبل “ثور”، وساحة معارك “أحد” و”الخندق” و”بدر”، وبقية الأماكن والآثار التي هي عمق وصميم تاريخنا الإسلامي، عبر شركات عالمية عملاقة، ومن ثم نتيح زيارتها برسوم –بما في كل دول العالم- وعبر تقنيات عالية، فيها شرح علمي مبسط وسهل، وبحقائق تاريخية حقيقية بعيدا عن المبالغات والأوهام، بل يمكن تمرير بعض التنبيهات التي تقوم بتوعيتهم عن الشركيات والبدع.
أخبرني صديق مسؤول بأن لجنة شرعية اجتمعت عام 1423، أي قبل 16 سنه تقريبا في أمانة العاصمة المقدسة، بحضور معالي أمين العاصمة المقدسة في ذلك الوقت د. خالد نحاس –صاحب الاستقالة الشهيرة والموقف التاريخي الذي لا ينساه الوطن- وكان من ضمن الحضور د. عبدالعزيز الكليه والشيخ عبدالمحسن ال الشيخ، ومدير أبحاث الحج في ذلك الوقت د. أسامه البار، والباحث في معهد أبحاث الحج د. سامي برهمين، وناقشوا حينها أهمية تطوير “جبل النور” وازالة الشركيات التي عليه، وتمّ رفع التوصية لسماحة مفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، الذي أيّد التوصية، وكتب في رمضان 1423 لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز -يرحمه الله- الذي أيّد التوجه، بيد أن الموضوع راوح مكانه للأسف، والشاهد هنا أن سماحته يؤيد تطوير مثل هذه الأماكن، بما يزيل ويمنع الشركيات والبدع عنها.
أفكار ابداعية وملهمة ستنثال لتطوير هذه الأماكن، فغار “حراء” مثلا، يمكن إقامة “تلفريك” ينقل الزوار للغار، الذي سيعزل جداره من الداخل بحاجز زجاجي، وعبر تقنيات البلوتوث يستمع الزائر بلغته عن تاريخ هذا الغار، وأهميته وأهم أحداثه والعبر منه، ويتكرر الأمر نفسه في ساحة أحد. يتجول الزائر، وعبر السماعة ينتبه للشرح عن تفاصيل المعركة، والدروس منها، وهكذا دواليك في كل مواقع الآثار.
ليس لها إلا ولي عهدنا، مبدع رؤية 2030، أميرنا الشاب محمد بن سلمان الذي وعدنا بأخذ المملكة لمصاف دول العالم المتقدم، ودول العالم تتبارى في الحفاظ على تراثها وتاريخها، وهل أغلى من تراث الإسلام ؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف