الدستور
كمال الهلباوى
الخشية من الله تعالى «1-3»
الخشية من الله تعالى مقام من أعلى المقامات، وصفة من أسمى وأعلى الصفات، قال تعالى: «فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» سورة التوبة.. إن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ولعلهم يتذكرون ولعلهم يعتبرون. ومن الآيات التى جاءت فى هذا الصدد التى تقارن بين الناس والجبال بالخشية من الله تعالى نقرأ بعض معانى هذه الآيات فى المقال التالى.
لقد ضرب لنا سبحانه مثلًا طيبًا فى الخشية من الله عند سماع آياته فقال: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (٢١) سورة الحشر.. ولقد عاب الله تعالى على بنى إسرائيل ووبخهم على قساوة قلوبهم وعدم خشيتهم له سبحانه فقال لهم: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (٧٤) سورة البقرة.
فالخشية من الله تعالى هى ميزان الأعمال وزينتها، وهى سداها ولحمتها.. وفى هذا المقال نذكر تفسير معنى قوله تعالى «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (٢١) سورة الحشر.
ففى تفسير ابن كثير فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».
يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبينًا علو قدره، وأنه ينبغى أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: «لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» أى: فإن كان الجبل فى غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله، عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».
قال العوفى: عن ابن عباس فى قوله: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا» إلى آخرها، يقول: لو إنى أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه، لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله. فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. ثم قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون.
وقد ثبت فى الحديث المتواتر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبى ــ صلى الله عليه وسلم ــ ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن، كما يئن الصبى الذى يسكن، لما كان يسمع من الذكر والوحى عنده.
ففى بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصرى بعد إيراده: «فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجذع». وهكذا هذه الآية الكريمة، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: «ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى». وقد تقدم أن معنى ذلك: أى لكان هذا القرآن. وقال تعالى: «وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله».
وفى تفسير القرطبى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: «لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا» حث على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عذر فى ترك التدبر؛ فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة؛ أى متشققة من خشية الله. والخاشع: الذليل. والمتصدع: المتشقق. وقيل «خَاشِعًا» لله بما كلفه من طاعته. «مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» أن يعصيه فيعاقبه. وقيل: هو على وجه المثل للكفار.
«وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» أى أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون فى وعده، ولا ترهبون من وعيده وقيل: الخطاب للنبى، صلى الله عليه وسلم؛ أى لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، وتصدع من نزوله عليه؛ وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتنانًا عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. وقيل: إنه خطاب للأمة، وإن الله تعالى لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله. والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتًا؛ فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على رده إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب. أما فى تفسير الطبرى فإننا نقرأ المعنى الآتى «لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».. وقوله: «لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» يقول جلّ ثناؤه: لو أنـزلنا هذا القرآن على جبل، وهو حجر، لرأيته يا محمد يا خاشعًا؛ يقول: متذللا متصدّعا من خشية الله على قساوته، حذرًا من ألا يؤدّى حقّ الله المفترض عليه فى تعظيم القرآن، وقد أنـزل على ابن آدم وهو بحقه مستخفٌّ، وعنه عما فيه من العِبَر والذكر مُعْرض، كأن لم يسمعها، كأن فى أذنيه وقرًا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف