الوطن
خالد عكاشة
الطرق المسدودة إلى القدس
«ترامب» تداول مع فريق عمله، قبيل إعلانه المفاجئ نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، احتياجه إلى عامل محفز لكلا الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى كى يذهبا قُدماً للتعاطى مع مشروعه الذى نضج، من وجهة نظره، لطرحه كإطار لحل نهائى، وإن كانت الحقيقة أنه لا شىء ناضج مع «ترامب» على الإطلاق، لكن على الأطراف المعنية القبول بهذا التسويق على الأقل الآن. وبنفس طريقة إعداد الوجبات السريعة، التى قد تبدو شهية فى لقطتها الأولى، كان الأقرب هو استدعاء الوعد الانتخابى بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، باعتبار تلك الخطوة يمكنها أن توفر المشهد المطلوب.

فى بحث مماثل عن ثمة بصيص من ضوء فى تلك المتاهة المظلمة المسماة بـ«عملية السلام»، أو فى رواية أخرى جولات التفاوض الدبلوماسى، باعتبار المصطلحين بديلاً عن فعل «المقاومة»، يبقى استحضار الاهتمام بالقدس المحتلة وتجدُّد الحديث عن القضية الفلسطينية بمثابة ضوء خافت حتى وإن لم يصلب وهجه حتى كتابة تلك السطور، فانتشالنا من فوضى أزمات المنطقة ومعادلاتها المراوغة، والعودة «جزئياً» للقضية المركزية التى يمثلها الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين العربية، يصب على الأقل فى خانة «الإفاقة» الغائبة.

وكما ذهب البعض لتفسير نهر المخاطر، والتهديدات، وتحطيم القوى العربية، الذى انفتح على مصراعيه بغتة، باعتباره يستهدف فى المقام الأول رقبة القضية الفلسطينية، فهناك آخرون فى الإدارة الأمريكية الحالية وبعض من خبراء الملف المخضرمين يتحدثون اليوم، بعد أسبوع تقريباً من القرار الأمريكى، باعتباره على الأقل حقق المستهدف منه، ويكفى الرئيس ترامب أنه لم يذكر فيه حدود القدس «المقصودة» فى القرار! وهم رغم طرح البعض من التحفظات على سيناريو إخراج الإدارة الحالية، يؤكدون ويراهنون على جدية وفاعلية الإرادة الأمريكية فى الوصول الحقيقى لحل نهائى.

هذا التصور الأمريكى الذى يرى أن تلك الإدارة تمتلك مشروعاً للحل، إن لم يكن هو «المتاهة» بعينها، فأى توصيف يمكن أن يليق به؟ والإنصاف يحتم أن يكون هذا التساؤل موجهاً إلى الطرف الفلسطينى والعربى بداهة، فالولايات المتحدة وإسرائيل لديهما مشروع أو بمعنى أدق، خطة محددة الخطوات تمتلك خريطة زمنية، إضاعة الوقت فى توصيفها بكل النقائص وأفعال التغول على الحقوق من جانبنا ستبدو تسليماً طيباً لمن يسحب أيادى الطرف الفلسطينى كى يضعه على أبواب المتاهة التى سيُدفع تجاهها بهدوء لا يناسب الموقف، فالخطة وخطواتها المشار إليها تحوى فى صفحتها الأولى مجموعة من إرشادات العمل لكل من إسرائيل والولايات المتحدة كى يقوم كل منهما بأدوار محددة لاستيعاب وتفكيك ردات الفعل الفلسطينية والعربية المتوقعة، ومن ثم المضىّ قدماً للتعامل وتنفيذ بقية خريطة العمل لإنجاز خطوة «صياغة الحل النهائى».

على الأقل إن لم يمتلك الطرف الفلسطينى بداية، ومن ورائه الأطراف العربية الفاعلة أو التى تريد أن تكون كذلك، خارطة طريق مبدئية ومرنة يمكنها التفاعل بجدية مع خطوات الجانب الآخر، فستكون «المتاهة» حينها مُشرَعة الأبواب لاستقبال «كل» من يدّعى عدم الفهم أو يفتقر للإرادة، فما جرى خلال أسبوع أول أعقب القرار الأمريكى، الكثير منه يقود إلى طرق مسدودة، ويظل مجموعة رهانات خاسرة بمجرد إلقائها. بحسابات الوقت الذى لن يكون أبداً لاعباً لصالح قضية احتلال عمرها يقارب الـ«70 عاماً»، يلزم تلك الجهود تقييم أسبوعى لكافة خطوات العمل، فضلاً عن إحكام تنسيقها لضمان الفاعلية.

نماذج الطرق المسدودة عديدة، لكن قد يكون أهمها التحرك الأردنى تجاه «منظمة التعاون الإسلامى» ومحاولة إحياء الدور التركى، رغم أن الأخير، على أفضل تقدير، لا يمثل سوى محطة استيعاب لردات فعل عربية، فضلاً عن الدفع الخاسر للقضية تجاه المربع الدينى الذى لم ينتج سوى تعميق لأزمتها، وهذا مما لا يمكن الإفاضة فيه سوى أن هذا المكون الإسلامى يشهد فصلاً داخلياً من الاضطراب الحاد، لخّصته صورة تذكارية جمعت تركيا وإيران وقطر فى صدارة غابت عنها مصر والسعودية والإمارات والبحرين والجزائر والمغرب!

طريق آخر يمثل إعادة تدوير متهالك لحراك شعبى داخلى فلسطينى، حيث خرجت تظاهرات الجمعة الماضى ترفع أعلام «حماس» عمداً فى مدن الضفة، كى لا تفلت المناسبة من استثمارها سياسياً، وكأن قريحة الفصائل عجزت عن اعتماد مظهر من مظاهر التوحد يعكس فى الشارع الفلسطينى جهود المصالحة المنتَجة فقط منذ أسابيع مضت! على الأقل من أجل صياغة معادلة جديدة تمثل قدراً من القلق لدى إسرائيل، فالثابت أنها تولى لدرجة حرارة وآليات هذا الشارع قدراً أكبر كثيراً من قيادات الداخل السجينة فى مستلزمات السياسة.

سياسة الداخل الفلسطينى «السلطة» تقف حتى الآن فى منطقة رمادية شاحبة إلى حد كبير، فبدت وكأنها لم تحسم خياراتها بعد، فرغم الطرح المهم الذى بدأ به محمود عباس بالرفض للوسيط الأمريكى كراعٍ للمسار السياسى للقضية، فإنه جاء ناقصاً ومشوشاً حتى الآن وإن كان لم يضع بعد، فقد خصم منه إطلاقه من منصة إسطنبول، وبقى طرحاً وسط زحام من المقترحات مثل حل السلطة الفلسطينية، أو التحلل رسمياً من إطار «أوسلو» والعودة لما قبلها، لكن ظلت تلك المقترحات، على وجاهة البعض منها، مجرد بالونات اختبار أو ارتجال سياسى يلزمه إخراج متكامل ليصير خطوة فاعلة تضع الجانب الإسرائيلى والأمريكى أمام حالة جديدة ستستمد قوتها من أنها خارج إطار ما خططا له، وتمتلك الجاهزية لملاقاته.

الأفكار الجديدة لن تقف عند حد اختبار طرق جديدة إلى القدس، على أمل ألا تكون مصابة بذات الانسداد القديم، بل يمكنها أيضاً معالجة «شحوب» و«شروخ» الشارع الفلسطينى المهم، والأهم وضع إسرائيل والولايات المتحدة أمام فاتورة احتلال باهظة الثمن داخلياً ودولياً، بديلاً عن هذا الوضع المجانى المريح الذى يمارسان عملهما تحت ظلاله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف