الأهرام
جلال امين
مستقبل اللغة العامية
فى هذا الأسبوع تحل الذكرى السنوية لوفاة شاعر العامية المصرية العظيم أحمد فؤاد نجم. وكنت قد سمعت بعض أشعار نجم لأول مرة عقب الهزيمة العسكرية المسماة «النكسة» فى عام 1967، أى منذ خمسين عاما، وإصابة المصريين بإحباط شديد عبرت عنه قصيدة شهيرة لنجم تبدأ بعبارة ساخرة (الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا)، وتشبّه مصر بالبقرة الحلوب التى انهالت عليها سكاكين الاعداء بالطعن «والبقرة تنادى وتقول ياولادي، وولاد الشوم، رايحين فى النوم».

كان نجم أحد ثلاثة مشاهير استخدموا العامية المصرية استخداما عبقريا فعلها قبله بيرم التونسي، ثم فعلها صلاح جاهين، واستمر نجم يستخدمها شفاها فى بيوت المثقفين وتجمعاتهم البعيدة عن السلطة إذ كانت قصائده من النوع الذى لا تستريح إليه وسائل الإعلام الرسمية.

من المؤكد أن من أسباب نجاح هؤلاء الثلاثة فى كسب قلوب المصريين، عدا الفصاحة والمعرفة الواسعة بالتعبيرات الشعبية، ما حظى به الثلاثة من حسّ نقدى لما يجرى فى الحياة السياسية والاجتماعية فى مصر، واستعدادهم لنقد ما لا يعجبهم فيها. من الشائع أن بيرم التونسى ُنفى من مصر ومنع من دخولها بسبب قصيدة ألّفها عن الملك فؤاد، وقيل إن السلطة السياسية فى مصر غضبت على صلاح جاهين بسبب إحدى رباعياته التى شّبه فيها الزعيم «بطير عالٍ فى السما» ثم سخر منه. أما فؤاد نجم فكان لا يخرج من السجن، بعد قصيدة ألفها ضد السلطة، إلا ليدخله من جديد للسبب نفسه، وأظن أن استخدام الثلاثة العامية فى هذه القصائد كان أكثر إثارة لغيظ السلطة وغضبها مما لو كانوا قد عبروا عن المعانى نفسها بالعربية الفصحى الأقل أثرا فى الناس، ومن ثم الأقل انتشارا.

نحن نعرف أن القصيدة العربية فى أيام المتنبي، كانت تؤلف فى مصر مثلا فيرددها الناس ويتناقلونها من بلد إلى بلد حتى تصل إلى العراق فى الشرق أو مراكش فى الغرب خلال أشهر أو أسابيع. وكان انتشار العربية الفصحى وفهم الناس لها فى جميع البلاد العربية من أسباب هذا الانتشار. لكن العامية المصرية لديها أسبابها الخاصة لهذا الانتشار، وهى أنها الأسهل والأقرب إلى التعبير عن مشاعر الناس العاديين أو الأقل تعليما، فضلا عن دور الإذاعة والسينما، خاصة لما تتمتع به العامية المصرية من سهولة نسبية، إذا قورنت ببعض اللهجات العربية الأخري.

بالإضافة إلى ما كانت تعبر عنه السياسة المصرية من أهداف تستجيب إلى كثير من الطموحات والآمال للشعوب العربية الأخري. لقد اشتهرت فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى إذاعة صوت العرب، التى تبثها مصر، وما كانت تذيعه من خطب حماسية بالعربية الفصحى لأحمد سعيد عن القومية العربية وتدعيم الزعامة المصرية للأمة العربية، لكن العامية المصرية لعبت أيضا دورا لا يستهان به فى توحيد المشاعر العربية فى خارج نطاق العلاقات السياسية. كان هناك دائما من الكتاب المصريين والعرب من يحذر من الأفراط فى استخدام العامية، فى مصر أو فى الدول العربية الأخري، خوفا من أن يضعف هذا من الأواصر العربية، ويهدد أمل تحقيق الوحدة العربية. لكن ثبت مع مرور الزمن أن ما أضعف هذه الأواصر وهدد هذه الوحدة عوامل اخرى سياسية واقتصادية فاقت فى أثرها كثيرا ما كان من أثر استخدام العامية بدلا من الفصحي.

وكان هناك ايضا من المشتغلين بالتعليم من يحذر من شيوع استخدام العامية فى وسائل الإعلام أو الكتب، وما يمكن أن يحدث نتيجة لهذا من ضعف مستوى التلاميذ فى اللغة الفصحي، وازدياد الميل إلى إحلال العامية محلها. وقد كنت دائما (ولاأزال) أشارك هؤلاء خوفهم، لكنى أميل دائما إلى الاعتقاد بأنه من الممكن أن نحقق كلا الهدفين المرجوين لو أحسنا التصرف فى الكتابة، وفى التعليم، فكما أن تقديرنا لجمال العربية الفصحى وعبقريتها لا يمنعنا من الإقرار بجمال وعبقرية العامية، فان من الممكن دائما أن تحتفظ كل منهما بمكانها المناسب، وألا نسمح لإحداهما بالطغيان على الأخري. إن الذى سوف يسمح لنا بتحقيق الهدفين ومنع هذا الطغيان هو نهضة ثقافية عامة يكثر فيها الإنتاج الجيد بكلتا اللغتين، فالظاهر أن الخوف على اللغة الفصحى والعامية معا يأتى أساسا من الركود الثقافي، أى من ضعف وقلة الإنتاج الجيد بكلتا اللغتين. إنى لا أتبين لماذا لا نرحب بإنتاج الأعمال الجيدة بالفصحى وبالعامية، جنبا إلى جنب، لكن من السهل أن نتبين كيف يمكن أن يصيب الضعف الشديد كلتا اللغتين. هكذا بالضبط كانت حالنا قبل بداية نهضتنا الحديثة فى القرن التاسع عشر. ألم تنتشر السوقية فى التعبير بالفصحى والعامية فى القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر؟ وألم تنهض اللغة العربية الفصحى ابتداء من النصف الثانى من ذلك القرن، وبدأت العامية أيضا فى التخلص من أكثر ألفاظها ابتذالا؟ يبدو أن عوامل النهضة اللغوية هى نفسها عوامل النهضة فى سائر جوانب حياتنا الأخري، الاجتماعية والاقتصادية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف