الأهرام
د/ شوقى علام
نحو مجتمع آمن مستقر نبـى الرحمـة
بلغت معانى الرحمة من نقاء المعدن وسمو الروح ونبل الطبع نسقها الأعلى فى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اكتملت شمائله ونضجت فضائله؛ فكان مظهرَ رحمة الله تعالى للخلق كافة، قال الله تعالي: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[الأنبياء: 107].
ولا ريب؛ فإن رحمته صلى الله عليه وسلم دائرتها واسعة شملت العام والخاص والعدو والصديق والمحسن والمسيء على حد سواء، بل من ظنَّ انحصار رحمته صلى الله عليه وسلم فى المسلمين خاصة فقد ضَيَّق واسعًا؛ لأن سعة رحمته كما كانت مع المسلمين، كانت أيضًا فى إقالة عثرات غير المسلمين والصفح عن جفائهم وغلظتهم، وذلك وصف مقرر ومعروف من خلقه الكريم، وفى ذلك يقول الله تعالي: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ)[آل عمران: 159]
إنه صلى الله عليه وسلم كان مصدرًا للرحمة، وباعثًا لها، ومتخلقًّا بها فى جميع أحواله، خاصة مع المخالف حيث أمر بحسن معاملته ومنع من انتقاصه ولو بكلمة فقال: “أَلَا مَن ظلم معاهدا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة”(سنن أبى داود)، وقد منَّ على أهل مكة يوم الفتح بالأنفس والأموال بقوله: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
كما أن شريعته المطهرة جاءت مناسبة لأهلية كل مكلف، مراعًى فيها طاقته البشرية، رافعة عنه العسر والمشقة فى كافة التكاليف وفق معالم وضوابط تعصمه مراعاتها من الإفراط والتشدد وتمنعه من التفريط والانحلال، مع عموم الرفق بالأمة، ورحمةٍ تشمل العالمين، حتى إن شفاعته صلى الله عليه وسلم تَعمُّ الناس جميعًا يوم القيامة ولا تختص بالمؤمنين فحسب، كما فى حديث الشفاعة الكبري، وفيه أن النبى صلى الله عليه وسلم يشفع للناس جميعًا بين يدى ربه جل وعلا فى هذا الموقف العصيب.
إن هذه الدلالات الواضحة تؤكد أن المولد النبوى الشريف يمثِّل أعظم إطلالة للرحمة الإلهية على الخلق أجمعين، فكان فى فصل الربيع الذى هو موسم تفتح الزهور واعتدال الحياة؛ فقد وافق مولده الشريف فجر يوم الاثنين الثانى عشر من شهر ربيع الأول الموافق لشهر إبريل عام 571 ميلادية.
ولقد دَرَجَ سلفُنا الصالح منذ القرنين الرابع والخامس على الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم بإحياء يوم المولد بشتى أنواع الطاعات والقربات، وإشاعة مظاهر الرحمة من الفرح والسرور والإطعام والتهادي؛ فرحًا منهم بمولده صلى الله عليه وسلم ومحبةً منهم لما كان يحبه، عرفانًا بحسن فضائله وسردًا لجميل شمائله وتذكرة بأخلاقه القويمة حتى تتعلق النفوس والعقول بحضرته الشريفة، ومن ثَمَّ ينعكس ذلك عليهم فتشمل رحمتهم الكافة وتذهب عن قلوبهم القساوة والغلظة، تعرضًا لبشارة الحديث الشريف: «والذى نفسى بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم»، قالوا: يا رسول الله، فكلنا رحيم. قال: «ليس الذى يرحم نفسه خاصة، ولكن الذى يرحم الناس عامة». فليتخذ الإنسان خاصة المسلم من أعظم إطلالة للرحمة الإلهية المتمثلة فى مولده الشريف مبادرة جادة لغرس خلق الرحمة فى أقواله وأفعاله من خلال اغتنام سمات الرحمة المهداة والاقتباس من ذلك الهدى النبوى والتلقى منه، وتفقد النفس فى التحقق بذلك حتى يَكْمُل إيمانه ويُحَصِّل وافر الخير أضعافًا مضاعفة؛ لأن من لا يرحم غيره بأى نوع من الفضل والإحسان يبعد من رحمة الله، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس».

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف