الوطن
جمال طه
«النيل مجاشى!!»
وزارة الرى الممثلة لمصر فى اجتماعات اللجنة الثلاثية الفنية المعنية بسد النهضة أعلنت وقف المباحثات، والرجوع لمجلس الوزراء لاتخاذ الإجراء المناسب، وذلك رداً على رفض إثيوبيا تقرير المكتب الاستشارى الفرنسى، الذى قبلته مصر، رغم تحفظها المبدئى على اختيار المكتب، لسابقة أعماله فى إثيوبيا، السودان حاول التزام الحياد، لكن انحيازه يغلبه.. القرار جاء متأخراً ست سنوات، شهدت سلسلة إجراءات تعكس سوء إدارتنا للأزمة، وتجسد قصور التعامل مع إشكاليات أمننا القومى.

إثيوبيا وضعت حجر أساس السد 2 أبريل 2011، أول رد فعل مصرى تجاهه كان زيارة وفد «الدبلوماسية الشعبية» لأديس أبابا 29 أبريل، نسقها أحد المستثمرين، أصحاب المصالح فى أفريقيا!! زيارة لم يتم الإعداد لها جيداً، لأن الدولة كانت غائبة بسبب نجاح الفوضى فى الإطاحة بالرئيس، وشل مؤسسات السلطة، الوفد ضم 84 عضواً من مختلف القوى السياسية والحزبية والشخصيات العامة وعدداً من ائتلاف شباب الثورة، لم يتساءل أحدهم عن الهدف من الزيارة؟! هل لاستنكار بناء السد؟! أم للمطالبة بضوابط بناء تحول دون الإضرار بمصالحنا؟!.. فى غياب التخطيط وضياع الهدف، نجحت إثيوبيا فى توظيف الزيارة، صور تضامن أعضاء الوفد مع قادة إثيوبيا غطت الفضائيات والصحافة العالمية، لتؤكد موافقة مصر بكل أطيافها على بناء السد!!.

محمد مرسى عين هشام قنديل وزير الرى رئيساً للوزراء، بدعوى كفاءة إدارته لملف السد!!، مرسى زار إثيوبيا نهاية مايو 2013، فقامت بتحويل مجرى النيل فور مغادرته، دعا لجلسة حوار وطنى لبحث تداعيات القرار الإثيوبى، شارك فيها ممثلو القوى السياسية وقيادات المعارضة، وتم بثها «بالخطأ» على الهواء مباشرة، البعض اقترح التلويح باستخدام القوة، واقترح الآخر التدخل فى الشئون الداخلية لإثيوبيا ودعم جبهتى تحرير أورومو وأوغادين، بينما أوصى الثالث بالاستعانة بالمخابرات لهدم السد، ونصح الرابع ببث الشائعات، ما حدث بملابساته كان مدعاة للسخرية، لكن إثيوبيا ترجمته ووزعته على الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية، لتضع مصر فى موقع الإدانة.. فصول من العبث لا تمت بأدنى صلة لقيادة الدول ولا بإدارة الأزمات.

بعد تخلص مصر من حكم الإخوان، وبدء استعادة مؤسسات الدولة لحيويتها، كان مطلوباً إشغالها لإتاحة الفرصة لاستكمال السد، إحدى الشركات العاملة فى الكونغو، قدمت مقترحاً بتوصيل 110 مليارات متر مكعب من المياه من نهر الكونغو إلى نهر النيل عبر النيل الأبيض جنوب السودان، رئيس مجلس إدارتها مهندس مصرى، تربطه بالرئيس جوزيف كابيلا علاقات صداقة، رسَّم نفسه رئيساً للمشروع، افتتح صفحة رسمية على الفيس بوك، تعمد تشتيت المسئولية بين وزارات الرى والبترول والخارجية وهيئة المساحة الجيولوجية و«جهات سيادية»، ادعى أن كل الدراسات والخرائط والمستندات الخاصة بالمشروع تم تسليمها لهذه الجهات، متضمنة مدة التنفيذ «30 شهراً»، وتحديد مصادر التمويل، دون تحميل مصر أى أعباء!! صحف الكونغو والسودان نشرت موافقات «غير رسمية» على المشروع، وإثيوبيا روجت إعلامياً أنه يحقق لمصر وفرة مائية لا موضع معها لأى شكاوى تتعلق بسد النهضة، شهور عديدة مرت قبل أن تعلن وزارة الرى رفضها الرسمى بسبب عواقب المشروع الوخيمة، ومخالفته للأعراف الدولية، حجم المياه المنقولة كفيل بإغراق السودان، لأنها تفوق طاقة استيعاب نهر النيل بكثير، المسافة بين الكونغو وجنوب السودان فيها نسبة ميل عكس اتجاه المياه ما يتطلب تركيب محطات رفع، وبناء 18 سداً، وشق مجرى النهر فى الصخور النارية، ذات الصلابة العالية، ومد 550 ماسورة بقطر 2 متر، وبطول 600 كم، التكلفة التقديرية للمشروع 30 مليار دولار، بخلاف التكلفة السنوية للتشغيل.. المشروع أقرب للخيال العلمى، لكنه أدى دوره فى استهلاك الوقت، وزعزعة موقفنا، فى معركة السد.

مصر وقعت إعلان المبادئ فى الخرطوم مارس 2015، نص على أن يكون نظام التشغيل ومعدلات التخزين فى السد وفقاً لتوصيات الدراسات الفنية التى يقوم بها المكتب الاستشارى الدولى، فى ضوء التأثيرات المتوقعة على مصر والسودان، إثيوبيا استغلت ضعف وزير الرى المصرى كمفاوض لتفرض رؤيتها على اللجنة الفنية الثلاثية، بالتنسيق مع السودان وضد المصالح المصرية، ماطلت فى اختيار المكاتب الاستشارية، فعطلت الدراسات لأكثر من عام، ثم فرضت المكتب الفرنسى، الوزير قبل التنازل عن مشاركة الخبراء الدوليين، فاقتصرت اللجنة على الوطنيين من الدول الثلاث، ما أتاح الفرصة لإثيوبيا للتمسك برؤيتها، فى غياب الرأى المحايد للأجانب.. تنازل عن تنفيذ توصيات اللجنة الدولية بإجراء دراسات متعلقة بإنشاءات السلامة للسد وتأثيرها على دولتى المصب، وعن مطالبة إثيوبيا بتقديم دراساتها المتعلقة بإنشاء 5 سدود أخرى، على النيل الأزرق ونهرى عطبرة وأومو بالمخالفة لقواعد الاتفاقيات التاريخية لدول حوض النيل.. قام بزيارة موقع السد، التقط الصور والفيديوهات كسائح، فاستغلت إثيوبيا الزيارة وسوقتها للرأى العام الدولى باعتبارها تعكس تقبل مصر للسد.. مصر غرقت فى أخطاء الوزير!

ملف سد النهضة يتضمن فصولاً من سوء الإدارة، ما سمح بتوظيفه سياسياً، خلال أزمة العلاقات المصرية السعودية استقبلت المملكة رئيس الوزراء الإثيوبى، وزار الخطيب مستشار العاهل السعودى إثيوبيا، وعندما تصاعدت أزمة قطر إلى حد الحصار زار تميم إثيوبيا، وبمجرد إيقاف مصر للمباحثات توجه ديسالين صوب الدوحة، واتجه وزير المالية القطرى للسودان.. سد النهضة أصبح أداة مناكفة ومكايدة لمصر.

مصر عجزت عن توصيل رسالة ضرورية لإثيوبيا «النيل لمصر قضية أمن قومى»، إعلان المبادئ فرض مسارات محددة لتسوية النزاعات بين أطرافه، أقصاها إحالة الأمر لعناية الرؤساء، ما يعنى غل أيدينا عن الاستعانة بالآليات الدولية فى مواجهة التعنت الإثيوبى، التعنت نمط ثابت فى تعاملها مع تلك القضايا، افتتحت سد «جيبى 3» على نهر أومو ديسمبر 2016، ملء خزان السد يعوق تدفق المياه لبحيرة توركانا، ما هبط بمنسوبها بحدة، فتوقف الإنتاج الزراعى والصيد، وانتشرت المجاعة شمال كينيا، وأصبح نصف مليون من السكان مهددين بالفناء، مصر ينبغى أن تدخل اجتماع اللجنة العليا المشتركة «الرئاسية» بالقاهرة ديسمبر المقبل، باختيارات محددة وقاطعة، إما أن تتخذ إثيوبيا إجراءات فورية تنهى تعنتها وتحدث انفراجة للأزمة، أو تعفى مصر نفسها من الالتزام بإجراءات التسوية المحددة فى الإعلان، وتتحرك دولياً على محورين، الأول قانونى من خلال التحكيم الدولى، والثانى سياسى، يتخذ كينيا كنموذج لما يمكن أن يؤدى إليه التعسف الإثيوبى فى قضية النيل، الذى تعتمد عليه مصر فى 97% من احتياجاتها المائية، ما يجعل القضية تمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، يفرض تدخل الأمم المتحدة.. هكذا، وإلا فقريباً ننعى على امتداد الوادى: «النيل مجاشى».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف