اليوم السابع
محمد شومان
الانقسام الثقافى والازدواجية فى حياة المصريين
ناقشت فى مقال الأسبوع الماضى إشكالية تاريخية ممتدة فى تاريخنا المعاصر هى الانقسام الثقافى والاستقطاب السياسى بين القوى المدنية «شبه العلمانية» التى تدعو للحداثة ودولة المواطنة، وبين القوى الإسلاموية التى تدعو لأشكال من الدولة الدينية، وتتمسك بالقديم والموروث على حساب منجزات الحضارة العالمية، وتتهم هذه القوى كل جديد بأنه تغريبى وضد هويتنا.

ظهرت إشكالية الانقسام الثقافى والسياسى منذ الحملة الفرنسية ومع نهضة محمد على عام 1805، واتخذت أشكالاً متعددة من الصراع والصدام امتدت حتى 30 يونيو 2013 وما بعدها إلى الآن، لذلك طالبت بضرورة الحوار بين ممثلى القوى المدنية الحديثة والإسلاموية مع استثناء أى طرف تورط فى العنف والإرهاب، وقد انتقد بعض الأصدقاء دعوتى وأيدها البعض الآخر، لكن المهم أننى وجدت اهتمامًا من الكثيرين بما طرحته، وهو بالمناسبة ليس جديدًا كله، فظاهرة الانقسام والاستقطاب الثقافى والسياسى رصدها أغلب مؤرخى مصر وتحدثوا عنها، وكان لبعضهم ملاحظات مهمة عن الآثار السلبية لهذا الاستقطاب على الحركة الوطنية ضد الاحتلال والقصر.

وقد أضيف هنا أن الاستقطاب والصراع بين مشروع عبدالناصر التحديثى وبين الإخوان قد أربك جهود التنمية فى الستينيات وفضح موقف الإخوان الرجعى، وأظن أن الإخوان والجماعات الإسلاموية الإرهابية تعيد إنتاج هذا الدور فى مواجهة الجهود التنموية للرئيس السيسى.

من جانب آخر أظن أن أغلب مؤرخى مصر حصروا هذا الاستقطاب فى دوائر الحركات والأحزاب السياسية أى النخبة السياسية، وربما تطرقوا إلى الانقسام فى صفوف النخب الثقافية والأدبية، لكنى أرى أن الانقسام والاستقطاب قد ضرب المجتمع بشكل رأسى من النخب إلى الجماهير، ومن الطبقات الغنية إلى الفقيرة والمهمشة، صحيح أن أغلب الفئات غير المتعلمة قد لا تعى طبيعة هذا الانقسام وأسبابه لكنها تمارسه كل يوم فى حياتها من دون أن تدرك أبعاده ومخاطره، لقد كان يقال دائما إن المصرى متسامح بطبعه، وأنه قادر على التعايش بين متناقضات، لكن يبدو أن هذه المقولة فى حاجة إلى مراجعة فى ظل أزمة الاقتصاد والأخلاق، وما نراه من سلوكيات جديدة بين المصريين.

أيضاً انتقد بعض الأصدقاء والقراء فكرة وجود قوى تحديثية علمانية، وأكدوا أنه لا وجود لقوى تحديثية أو علمانية حقيقية، وأن بعض المنتمين للتيار التحديثى تطرفوا فى عدائهم لكل ما هو إسلامى أو مرتبط بالدين!! وأعتقد أن بعض هذه الاتهامات غير صحيحة، لأن هناك وجود مؤثر لقوى تحديثية فى الدولة والمجتمع، وقد كانت مؤسسات الدولة منذ نشأتها فى عصر محمد على، خاصة الجيش، هى الحارس الأول لقيم وآليات الحداثة والمواطنة، وفى الوقت نفسه لم يكن لها موقف ضد الإسلام أو الدين، وإنما كان لها موقف ضد الدولة الدينية أو خلط الدين بالسياسة، وظهر عدد محدود للغاية من الأشخاص من خارج مؤسسات الدولة ممن أساء للإسلام، وهؤلاء لا يمكن اعتبارهم يمثلون التيار العريض من القوى المدنية شبه العلمانية المتدين بسماحة واعتدال.

كما أن الدولة ومن خلال السلطة القضائية والقانون قد قامت بمحاسبة بعض غلاة العلمانية الذين تطاولوا على الإسلام أو المسيحية. القصد أن الدولة المصرية عبر تاريخها جسدت احترمها للدين ومنعت الخروج عن تعاليم الإسلام أو الإساءة للمسيحية، وسمحت بدور للدين فى خطابها العام وتنظيماتها لكنها لم تسمح باستغلاله أو توظيفه فى السياسية.

إذن لدينا فى معسكر القوى المدنية شبه العلمانية قلة محدودة من المتطرفين، لكن فى المقابل لدينا فى معسكر القوى الإسلاموية فيض واسع من الجماعات والأفراد الذين مارسوا الغلو والتطرف والعنف ضد خصومهم وضد الدولة، وقاموا بتكفير الآخر والاعتداء عليه ماديًا ومعنويًا، المعنى أن ممارسات التطرف والإرهاب كانت أكثر انتشارًا فى صفوف القوى الإسلاموية، وقد ظهر تعبير «إسلاموية» و«إسلاموى» لوصف الأشخاص أو القوى التى تحاول الانتساب عن غير حق للإسلام ومصادرته لصالحها، أى أن هناك فروقا كبيرة بين ما هو إسلامى، وإسلاموي. لأن الإسلامى هو كل شخص مؤمن بالإسلام ويؤدى فروضه، أما الإسلاموى فهو كل شخص مسلم أيضًا، لكنه يرى أن إسلامه هو الوحيد الصحيح، وبالتالى يحتكر الحديث باسم الإسلام ويوظفه لصالحه فى السياسة والاقتصاد وكل مناحى الحياة.

ولاشك أن هناك صعوبة فى الحوار مع هذه النوعية من الإسلاميين، لكن لابد من الحوار معهم طالما لم يتورطوا فى عنف أو إرهاب، وطالما أننا نعيش فى وطن واحد، لا بديل عن الحوار السلمى من أجل التوصل معهم إلى توافق على صيغ مشتركة من الحياة، فمن غير المعقول أن نتركهم يشكلون تجمعات موازية، لها زى مختلف وأفكار وقيم مختلفة عن التيار العريض من أبناء الوطن، إن وجود هذه التجمعات المختلفة يهدد الهوية الوطنية المشتركة، كما قد يؤدى إلى إفراز مجموعات إرهابية أو يؤدى على الأقل إلى حرمان الوطن من مشاركتهم فى السياسة وجهود التنمية.

إن الحوار المطلوب يفرض على كل معسكر أن يتفهم أفكار الآخر، ويدخل فى نقاش طويل وتفاوض اجتماعى لا يخلو من تقديم تفاوضات للوصول إلى حل وسط يحقق مصلحة الوطن فى التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، فى ضوء معايير العصر والتحديات المفروضة على مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف