بوابة الشروق
ابراهيم عوض
التحركات السعودية.. مآل فى مهبِّ الريح
اعتقال الأمراء والوزراء ورجال الأعمال السعوديين، واستدعاء رئيس الوزراء اللبنانى إلى الرياض و«حثه» على الاستقالة من العاصمة السعودية ليسا بداية لعملية سياسية جديدة وإنما هما حلقة فى عملية ممتدة منذ سنة 2015. لأغراض التحليل يمكن تقسيم العملية إلى شق داخلى سعودى وآخر خارجى، وإن كان الداخلى والخارجى متداخلين. داخليا، العملية بدأت فى نفس يوم تولى الملك سلمان الحكم فى يناير 2015 بتعيين ابنه الشاب محمد رئيسا للديوان الملكى ووزيرا للدفاع، وبعدها بأيام رئيسا لمجلسى الشئون الاقتصادية والتنمية والشئون السياسية والأمنية. بعد ثلاثة أشهر، فى إبريل 2015 كان الإجراء الثانى هو استبدال الأمير محمد بن نايف بالأمير مقرن بن عبدالعزيز فى ولاية العهد. لهذا التحرك معنيان هامان، الأول هو أن الملك يقرر وبقية العائلة، دعك عن «الشعب« يقبل بما يقرره. الثانى هو أن ولاية العهد قد خرجت نهائيا عن أبناء الملك عبدالعزيز، وبالتالى سيكون الملك القادم من بين أحفاده. هذا التحرك صحبه تعيين الأمير محمد بن سلمان وليا لولى العهد. فى خلال شهور ثلاثة، بسطت التحركات الداخلية سلطة الأمير الشاب على الاقتصاد والسياسة، فضلا عن إشرافه على شركة أرامكو، التجسيد لثروة المملكة ولدخلها، وأوصلته إلى ما قبل درجتين من قمة سلم السلطة. ولم تمر سنتان إلا وعُزِل الأمير محمد بن نايف من منصبه وصعد محمد بن سلمان درجة أخرى ليصبح ولى عهد أبيه. هذا الاستبدال فى يونيو 2017 يمكن اعتباره تأكيدا لأحقية الملك المطلقة فى تشكيل بنية الحكم فى السعودية. وبعد شهور خمسة، فى الأسبوع الأول من نوفمبر الجارى، وقع اعتقال الأمراء المشار إليه أعلاه، وهم أقوياء منهم قائد الحرس الوطنى ومنهم رجل الأعمال المتشعب دوليا، ليكون وأدا لأى اعتراض على سلطة الملك المطلقة. الفساد المتخذ مبررا للاعتقالات لا يؤخذ على محمل الجدّ. هو مبرر ليس جديدا فى السياسة. ثم إنه إن كان الأمرُ أمرَ فساد فهو لا يتوقف عند أولئك المعتقلين بل هو يمتد إلى آخرين كثيرين، بل وإلى جذور السلطة وأسلوب ممارستها.
***
فى الشق الخارجى، إطلاق «عاصفة الحزم» فى اليمن فى مارس 2015 تحرك أول. الدعوة إلى «التحالف الإسلامى لمحاربة الإرهاب»، المعلن عنه فى ديسمبر 2015 والتى لبّتها 41 دولة تحرك ثانٍ، يكشف عن طموح التحركات السعودية، فهو خرج بها من الداخل العائلى والسعودى، ومن جيرتها المباشرة، إلى رحاب العالم الإسلامى فى الخليج والمنطقة العربية والقارتين الأفريقية والآسيوية. فى إبريل 2016، أعلن عن نقل السيادة على جزيرتى تيران وصنافير من مصر إلى السعودية. وفى 2017 تسارعت التحركات. فى مايو زار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب المملكة العربية السعودية وانعقدت بهذه المناسبة قمة عربية إسلامية أمريكية جمعت 55 دولة وصدر عنها بيانٌ يتعهد بمحاربة مشتركة للإرهاب ويعلن عن إنشاء قوة عسكرية احتياطية لهذا الغرض قوامها 34000 جندى، وهو بيان اتخذ لهجة شديدة تجاه إيران. وفى يونيو، قاطعت السعودية ومعها الإمارات والبحرين، بالإضافة إلى مصر، قطر وشنت الدول الأربع حملةً شعواء عليها. وفى أكتوبر، أعلن عن إنشاء مدينة جديدة تتكلف مئات المليارات من الدولارات، أطلق عليها اسم «نيوم»، وهو اسم، وللعجب، ذو أصول لغوية إغريقية فى شبه الجزيرة العربية. ولأنها ستكون ذات وضع قانونى خاص، فضلا عن امتداد مشروعها إلى مصر والأردن، فإننا نحسبها تحركا خارجيا. ولم يمر شهر آخر إلا واستدعى رئيس الوزراء اللبنانى إلى الرياض وحُثَّ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، إن لم يكن أرغم، على قراءة بيان استقالته الذى هاجم فيه وبشدة إيران وحزب الله، عضو ائتلافه الحاكم، معتنقا بذلك الموقف الإقليمى السعودى. «حث» رئيس الوزراء اللبنانى على الاستقالة، ثم إبقاؤه فى الرياض، ذو أبعاد إقليمية تتعلق فى أغلب الظن بمجريات الحرب فى اليمن وبنتائج الصراع فى سوريا التى شاركت السعودية فى تأجيجه ثم خسرت فيه فى النهاية.
يلاحظ التلازم أو التقارب الزمنى بين التحركات الداخلية والخارجية. الحرب فى اليمن من جانب، وعزل الأمير مقرن وترقية محمد بن سلمان من جانب آخر؛ القمة العربية الإسلامية الأمريكية، ومقاطعة قطر، من جانب، واستبدال محمد بن سلمان بمحمد بن نايف فى ولاية العهد من جانب آخر؛ اعتقال الأمراء والوزراء ورجال الأعمال من جانب، واستدعاء رئيس الوزراء اللبنانى واستقالته من جانب آخر. إضافة إلى اندراج التحركات الداخلية والخارجية فى عملية واحدة، فإن فى هذا التلازم استغلالا مفرطا فى موارد القوة المادية والمعنوية المتوفرة للحكم السعودى يقترب بها من النضوب. ربما كان هذا ضمن أسباب أخرى ما جعل الحكم يلجأ إلى توسيع مصادر موارده.
***
تقليم أظافر هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والسماح للنساء بقيادة السيارات وبارتياد الملاعب الرياضية، والمبادرة بإيجاد أنشطة ترفيهية وفتح دور للسينما ــ هى سبل لتهذيب النظام الاجتماعى والحدّ من صرامته، وهى تكسب الشباب بالذات، الذى رحّب بهذه التحركات. رؤية السعودية 2030 لتنمية الاقتصاد السعودى وتنويعه هى بدورها محاولة لتمكين النظام الاقتصادى من توسيع قاعدة المستفيدين به. التحركات فى شأن النظامين الاجتماعى والاقتصادى هى فى اتجاه التحديث وهى تهدف إلى تدعيم شرعية الحكم، والخروج بها من مجرد دائرة العائلة السعودية والاستعاضة عنها، ولو جزئيا، بعموم السعوديين والسعوديات.
ومع ذلك، فإلى جانب النظامين الاقتصادى والاجتماعى، يوجد النظام السياسى. حتى الآن ليس ثمة تحرك لإعادة صياغة النظام السياسى السعودى فى اتجاه التحديث وتوسيع مشاركة السعوديين والسعوديات فيه. التوسيع المتواضع فى المشاركة الاجتماعية والاقتصادية ليس كافيا، خاصةً وأن هناك مائتى ألف شاب وشابة سعوديين يتلقون تعليمهم فى الجامعات الأجنبية حاليا. هل سيرضى هؤلاء، أو بعض منهم، باستبعادهم من القرار السياسى بعد عودتهم؟ اعتقال الأمراء والوزراء ورجال الأعمال قد يمرّ فى الوقت الحالى دون ردود أفعال من جانب العائلة، أو بالطبع من جانب السعوديين، فالمعتقلون ليس لهم أنصار؛ حيث إن النظام السياسى السعودى لا يقوم أساسا على فكرة السياسيين والأنصار. المشاهد حتى الآن هو عكس منطق النظام السياسى الحديث القائم على توزيع السلطة من أجل تأسيس قاعدة شرعية واسعة، فالذى حدث منذ عام 2015 هو تركيز متزايد للسلطة فى يدى الأمير محمد بن سلمان وحدهما. هذا وضع خطير على الحكم السعودى.
***
يعزز من هذه الخطورة أن الشق الخارجى لم يثمر شيئا حتى الآن. اليمن يستعصى على السعودية والعنف المستمر الممارس فى حق اليمنيين لا يؤتى نتيجةً. التحالف الإسلامى لم ينشأ فعلا، والقوة المشتركة لا أحد يعرف ما صارت إليه. وقطر لم ترضخ، وأغلب الظن أنه تحت الضغط الدولى سيفكّ الطوق عن رئيس الوزراء اللبنانى وهو سيعود إلى لبنان منكسرا ولن يلبث أن تنتهى حياته السياسية، وربما معها تلك الخاصة بكل بيت الحريرى، ما لم ينتفض هو لاستعادة كرامته وهو الشيء الصعب عليه؛ لأنه يفترض مخاصمة السعودية، خارجيا. يتبقى فقط مشروع «نيوم»، والحصول على الجزيرتين المرتبط به، ولكن المشروع ليس كافيا بل إنه قد لا يكون ممكنا تحقيقه وحده.
التحركات السعودية فى الشق الخارجى منها، وهو فى حقيقته إقليمى يتعلق بالخليج والمشرق العربى، عظيمة الأهمية ولكن يبقى أن تثمر نتائج ملموسة. تحقيق النتائج يتطلب تحديدا واضحا للأهداف، وتوافر الموارد الضرورية لبلوغها. الأهداف مبهمة حتى أنه يصعب إطلاق تسمية على العملية الجارية منذ 2015. المواجهة المفتوحة مع إيران غير ممكنة، لأنه ليس للسعودية وحدها قِبلٌ بها، ومصر وهى الوحيدة التى يمكنها نجدتها، ليست مستعدةً، وعن حق، للانجرار إلى أى صراع خارجى. فرض سيطرتها على لبنان لكسر حزب الله فيه ليس ممكنا بدوره لأن الأطراف اللبنانية غير مستعدة لأن تتعرض لخطر صراع أهلى جديد، فهى ما زالت تذكر مأساة حربها فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى.
القائمون على الأمور فى السعودية عوّلوا كثيرا على الرئيس الأمريكى، ولكن ترامب ليس الولايات المتحدة ولا هو الذى يحدد لها وحده مواقفها. الولايات المتحدة لن تخفّ إلى نجدة السعودية عسكريا، ولا حتى سياسيا فى كل الأحوال. «التغريد» المؤيد حاليا للحكم، كما كان بشأن قطر، هو تغريد شخصى لدونالد ترامب، المواطن الأمريكى، وليس لرئيس الولايات المتحدة. يخدع نفسه من يعتقد أن تأييدا «بالتغريد»، أو كما ينقله زوج ابنته ومستشاره، هو تأييد باسم الولايات المتحدة.
من دون أهداف محددة قابلة للتحقيق، ومن غير نتائج ملموسة لها، فإن مآل التحركات السعودية سيكون فى مهبّ الريح.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف