الوطن
ريهام فؤاد الحداد
كنّا فأصبحنا
لماذا تغيّرت التركيبة المجتمعية المصرية بجميع مجالاتها واهتماماتها، لماذا تفتقد إلى التميز والأهمية والتحقق، لماذا نضبت الساحة من أسماء لامعة موهوبة ومتميزة ومؤثرة وملهمة!!

سمِ عشرة أدباء مصريين حاليين حقيقيين وليسوا المتعاملين بالعامية الدارجة أو لغة الشارع الحديثة التى تغلب عليها الطلاسم والألفاظ الغريبة العجيبة. صحيح أن العامية هى لغة التواصل الإنسانى المحلى بأى مكان بالعالم، لكن الفصحى هى لغة التطور الحضارى والتفاهم الثقافى، والنهوض المجتمعى وصياغة الأفكار والقيم والمبادئ.

سمِ أى عدد من الكتاب والمنظرين المصريين الحاليين يمكن أن تصفهم بالاتزان والمنطقية والعمق، فيؤثرون إيجابياً بالمجتمع وينهضون به وبشبابه وبوعيهم وتفكيرهم، لا يحركهم سوى الصدق والأمانة وحب الوطن.

سمِ أى عدد من العلماء المصريين الحاليين (يعيشون بيننا، نُقدّرهم ويفيدوننا، نمدّهم بالدعم المادى والتقنى الذى يلزمهم ويعودون علينا بالفائدة)!!.

سمِ أى عدد من السياسيين، تحكمهم محبة البلاد والعباد وتغلب عليهم روح الرحمة والعدل، وليس المحاربة والمواربة، سياسيين تكون رؤاهم واضحة منبعها حب الوطن والضمير الحى وليس الموجات المتغيّرة والظروف المتتابعة والتلون المستمر، سياسيين يستطيعون أن يكونوا قدوة طيبة لجيل ناشئ يحتاج إلى ترسيخ روح المواطنة والانتماء.

سمِ عشرة شعراء مصريين يكتبون شعراً بلسان فصيح وعقل حصيف، شعراً حقيقياً وليس محاولات أو تجاوزات شعرية. سمِ عشرة ممثلين مصريين من الشباب يتقنون مخارج الألفاظ بأى لغة حية، عربية فصحى أو أجنبية تمكنهم من أداء الأدوار الملحمية المهمة، أو حتى دخول السينما العالمية.

سمِ عشر شخصيات مجتمعية مصرية مؤثرة محلياً أو إقليمياً أو دولياً، تأثيراً مهماً فاعلاً!

سمِ عشرة فنانين مصريين من الشباب يحملون فكراً وفلسفة ورسالة وهدفاً!! بل وتأثيراً.

سمِ عشرة مشاريع مصرية إنسانية، تهتم بالإنسان وتطوره وكيانه وعقله وأخلاقه. هدفها الحقيقى صناعة وتطور الإنسان. إن ما يحدث من قفر وجدب إنسانى أمر خطير، فى الماضى كنّا نتباهى بطوفان من عظماء كثر، أسماء خالدة، رسّخت فى الجذور أفضل وأجمل القيم والمفاهيم، كان عندنا العقاد وطه حسين والمازنى وأسطول من نوابغ الآداب والفلسفة والتنظير.

كنّا نملك أقطاباً فكرية سياسية مختلفة ومتنوعة كل بمنحى ورأى ووجهة نظر، لكن الجميع كان يجمعهم حب تراب هذا البلد، لم نسمع يوماً عن تمويلات أو شراء ذمم أو تغيُّر مواقف سياسية تبعاً للمصالح الشخصية للأفراد المشتغلين بها.

كنّا نملك علماء وعالمات، أسماء نفخر بها إلى يومنا هذا ونزهو، كنّا نملك أرقى وأعظم المطربين، كان فنانونا جميعاً يتقنون العربية، فكان لدينا مخزون هائل من الأعمال الدرامية والسينمائية الخالدة والمهمة والمؤثرة. كان لدينا مسرح جاد يضاهى ويتفوق على المسارح العالمية.

لم تكن هناك أى مساحة للإسفاف أو العبث، حتى الملهاة كانت تقدّم بأسلوب حضارى وأنيق.

كان الجميع حراً برأسه وأفكاره، دون تدخّل أو وصاية من أحد، دون غسيل مخ يتزعّمه تيار دينى متطرّف يسوق الشر كأنه العبادة ويكفر من لا يعتنقه أو يصدّقه، أو تيارات سياسية يخون كل منها الآخر. كان الجميع معتدلاً ومتقبّلاً للآخر ومتعايشاً معه.

كانت البيوت تحكمها العادات والتقاليد والأعراف الأصيلة، ومن كان يخرج عن الناموس العام لأخلاق البيوت كان يوصم بأنه دون المستوى اللائق. كان الفقير والغنى مهندماً، نظيفاً، كانت النساء أنيقات والرجال يتحلون بالنخوة والشهامة والأصالة. كان الإعلام يتمثل بالجريدة الصباحية، ثم التليفزيون بإمكاناته البسيطة وقتها إلا أنه كان عامراً بالبرامج الثقافية والعلمية وتربية النشء. ولم تكن وقتها القنوات الفضائية التى هى عبارة عن أكشاك من الثرثرة والمونولوجات المتشابهة يومياً، والتى تخلو من أى إضافة إنسانية، بل بالعكس تصدّر الضجر والإفلاس الفكرى وتفرّغ المحتوى العقلى بجدارة.

نجتر الماضى علّه يذكرنا بأهمية العودة إلى الوراء، ربما عادت إلى المجتمع ملامحه. فعندما ينضب الفكر وتفلس الساحات يكون حديث «كنّا فأصبحنا» من الضروريات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف