الوطن
رجائى عطية
العلم بين التوظيف الحميد والاستغلال الضار المسىء! (1-3)
لا يوصف العلم فى ذاته بأنه حميد أو ضار أو ذميم، مثلما لا توصَف الآلة بأنها بذاتها طيّبة أو شرّيرة، فالسكين الذى يقتل ويدمى وجرَّم الشارع إحرازه، هو ذاته مبضع الجرّاح الذى يستأصل الورم الخبيث ويداوى ما يُلم بأعضاء الجسم، ويرتق الإصابات والجراح، وهو بلطة تقطيع الأشجار، ومنجل حصد الحشائش وجمع المحصولات، وهو الأزميل الذى يصلح ويصوغ أجمل الأشكال، وهو نصل الإسكافى الذى يفصّل ويصنع ويشكل ويرقع، ومقص الترزى، وأداة الطاهى وست البيت، حتى السلاح النارى، فكما أنه خطر على الأبدان والأرواح، فإنه أداة الصيد المشروع، ورياضة الرماية، وهو أداة الدفاع عن الأوطان، وتراوح وتباين الاستخدام رهن بجنوح الآدمى أو سَوائه فى استعمال الآلة.

والكلمة التى بها صيغت آيات القرآن الحكيم والكتب السماوية وأحاديث ومواعظ الرسل والأنبياء، وتراث الأقدمين والمحدثين وصفحات التاريخ، ونظم الأشعار والأغانى، وصياغة القصص والروايات والمسرحيات.. هى الكلمة التى تدمى وتوجع، وتغمز وتلمز، وتهجو وتسىء، وتسب وتقذف، وتنهش فى الأعراض، وترمى الشرفاء بالباطل.

فكما أن هناك فارقاً بين الآلة فى ذاتيتها، وبين استخدامها، كذلك الفارق بين الاستعمالات المختلفة والمتباينة للكلمة، ولذلك فإن العلم فى ذاته لا يوصف بالحمد أو بالذم، وإنما تبعاً لما يوظف فيه للخير والصواب، أو يستغل للإيذاء والإضرار!

العلم الذى أنتج القنبلة الذرية، والقنبلة الهيدروجينية، والأسلحة الكيماوية، وأسلحة الدمار الشامل التى تحصد الأرواح، وتأتى على الأخضر واليابس، هو ذاته العلم الذى استثمر الذرة فى الطاقة لخير البشرية، وهو الذى استصفى الطاقة الشمسية لتحيل صقيع العالم إلى دفء، وتسيّر المحطات والمصانع بدل الكهرباء وتنير الظلام، وتسيّر ما أوشكت الطاقة البترولية على الانحسار عنه، وهو هو العلم الذى ابتكر المصباح، والموجات الصوتية، وشبكات الاتصالات، وضبط خريطة حركة العالم فى الأرض وفى الفضاء، وأتاح بشبكات المعلومات وفى لحظات ما كان الباحث يبذل فى السعى إليه وفى تحصيله الأيام والأسابيع والشهور، وربما الأعوام!

العلم يوصَف بالحمد والثناء، أو بالذم والقدح، تبعاً لتوظيفه أو استغلاله.

والعلم الذى يوظف توظيفاً حميداً، هو ذاته العلم الذى يستغل الاستغلال الضار المسىء، سواء فى المخترعات التى تدمر البشرية، أو العبث الذى يهدم ويقوض، وفى التحريف الذى يصيب حقائق الواقع وحقائق التاريخ، أو يصدم الناس فى معتقداتها الدينية والفكرية، وفى رموزها وآمالها الوطنية!

إيماءً وليس غمزاً ولا لمزاً!!

لم تقصد هذه الخواطر أن تلمز أو تغمز على أحد، ولا أن تطعن أحداً فى نواياه، فالمقاصد والنوايا يعلمها الله، وعلمنا البشرى بالنوايا قائم على الظن مهما كان راجحاً، لا على اليقين.

بيد أن التزام اليقين عند الطعن فى شرف واعتبار وأعراض الناس، واجبٌ يفرضه المنطق، مثلما يفرضه العدل، وتدعو إليه الأديان.

وكم من كلمات ضلّت وآذت وطعنت وحطّمت وأدمت، ثم استبان مع الأيام ما فيها من تَجَنٍّ على الحقيقة، وعلى أقدار وشرف واعتبار الناس، ناهيك عن الإضرار بالقضايا الوطنية والقومية والمصيرية، وتحطيم وإهانة الرموز التى تحيا الأوطان والشعوب على اجترار عظمتها وأمجادها، استلهاماً لقوة الدفع التى تحتاجها لاسيّما فى أوقات الأزمات والشدائد.

أجل، الكمال لله وحده، لا يعلو بشر على النقص، وكل أبطال التاريخ فى العالم، وفى بلادنا، أخطأوا كما أجادوا، ولهم مع أمجادهم هنّات وأخطاء، ومع ذلك تمسك الشعوب بهؤلاء وبصفحات الأمجاد التى حققوها، إمساك الغريق بما ينتشله من الغرق، ويساعده على الطفو والسباحة، ولو كان ذلك ضد التيار!

نعم.. العلم قيمة فى ذاته!

لا يمارى عاقل فى أن العلم قيمة فى ذاته، ويُطْلَب لذاته ولما يحققه للعارف به وللإنسانية من فرص النمو والتطور والترقى، حين يوظف للحق والصدق والصواب.

بيد أن العلم قد يُستغل للتلبيس والتضليل وتحقيق المآرب والأغراض!

الفرز بين الغث والسمين واجب..

وبديهى أن هذا الفرز الواجب بين التوظيف الحميد والاستغلال الملبوس، لا يصادر بذاته ولا يعنى حتمية أن تتطابق الرؤى والأفكار والآراء، أو يعاجل إلى رجم المخالف بالتلبيس والغرض والتضليل.

الاختلاف فى العلم وفى جوانبه وفى زواياه وفى مردوده وارد، بل هو علامة غِنى وثراء، ما لم يكن ملبوس الغرض فى استغلاله عن قصد سيئ ونوايا خبيثة وأغراض ملتوية، لا يعنيه الهداية إلى الصواب، وإنما إثارة البلبلة والأباطيل والمضلات.

لا بأس، إذاً، من اختلاف الآراء، ما دامت على صدق النية وسلامة المقاصد والغايات، وعلى المتلقى الباحث عن المعرفة واليقين أن يبذل ما عليه من الدراسة والتأمل والتمحيص، ليوازن بين الأفكار والآراء، ويفرز الغث من السمين، بعد أن يوازن بينها عن بصر شامل وبصيرة كاملة، ليعرف أكثرها صدقاً أو أقربها إلى الصدق وسلامة المقصد والغاية، ويميز بحذر لا بمسارعة إلى الرجم ما يراه مشوباً بتضليل ظاهر أو مستتر، باذلاً فى موازنته كل مستطاعه من الجهد وكل ما لديه من حصيلة العلم والمعرفة، لمعرفة حقيقة واقع هذه وتلك، دون أن ينخدع بما يلجأ إليه التضليل من تعلّات وذرائع لتسريب المراد، لاسيما إلى البسطاء، بغرض التضليل والهدم وصولاً لأغراض ملبوسة تتخذ من هذا التضليل وسيلة لها إلى مبتغاها!

موافقة الكلام لمقتضى الحال!

ليس فى هذا الاحتياط مصادرة على حرية البحث والنظر، وإنما ضبط لما يقال من واقع مسئولية الكلمة، وموافقتها لمقتضى الحال الذى تطلق فيه.

يعلم أهل العلم من الزمن الأول أن ما يقال للخاصة لا يقال كله للعامة، وأن مخاطبة الناس على قدر عقولهم واجب، ويعلم الأقدمون والمحدثون أن البلاغة إنما هى فى موافقة الكلام لمقتضى الحال، فالمخاطِب كتابةً أو شفاهةً إنما يخاطب متلقين، يختلفون فى معارفهم وفى علمهم وفى مقدرتهم على الفهم والتحصيل، لذلك كان ما يقال فى قاعات البحث والدرس، ليس ما يقال فى كل الأحوال لجماهير البسطاء أو غير العارفين أو على شاشات التلفاز!

ولم نسمع أن إينشتاين حاضر عامة الناس فى نظرية النسبية!

أو أن أناتول فرانس خاطب العامة بأفكاره الشكوكية!

أو أن توفيق الحكيم حمل فلسفته فى «التعادلية» وذهب بها إلى البسطاء!

أو أن علماء الذرة حولوا علمهم إلى مادة على الأرصفة أو قنوات وشاشات أشبه بها!

أو أن الفلسفة العميقة تُبذل للجهّال!

أو أن أسرار السياسة تلقى على من لا يعرف!

أو أن مصائر الأوطان ومصالحها وسياستها العليا نهب مباح على قارعة الطريق والفضائيات، لمن يحسن أو لا يحسن، ولمن يقال لهم هذا الكلام أو لا يقال!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف