المساء
محمد جبريل
من المحرر - ما بقي من العمر
زمان. كنت أبدأ قراءة "الأهرام" بعمود أحمد بهاء الدين أعلي يمين الصحفة الأخيرة. وكاريكاتير صلاح جاهين في الصفحات الداخلية ثم أطالع بقية الصفحات أعجبت ببهاء منذ "فاروق ملكا" و"أيام لها تاريخ" اجتذبني بموضوعيته ودقة تحليلاته ورفضه الجهارة والمبالغة والشتم والمداهنة والملق أذكر تواضع قوله: كنت أقل رؤساء التحرير نفاقاً لكنه ـ في الحقيقة ـ كان أحرص الجميع علي تأكيد قناعاته. يكتب ما يمليه عليه ضميره الوطني والمهني. يهمل الادعاءات الباطلة. والمزاعم التي تستهدف التجريح.. رد علي معايرة رئيس تحرير باع ضميره بأن اسمه أحمد بهاء الدين عبدالعال لم يشر إلي المعايرة الساذجة وإنما اكتفي بأن وقع عموده في "الأهرام" باسمه الكامل أقرأ كلمات بهاء ثم أفر الصفحات إلي كاريكاتير جاهين أضع نقداته في مستوي حجازي وليثي وإن تفوق علي الجميع بمواهبه الفذة في شعر العامية والكتابة الدرامية والأداء التمثيلي والغناء. أول تعرفي إليه في موال عشان القناة اشتريت الكتيب من بائع صحف بميدان المنشية يادوب كنت أغادر سن الطفولة لكنني أذكر حتي الآن أسطره الشعرية: يا ولاد بلادنا توت.. هاتوا قوام نبوت.. نموت البرغوت.. إيدن خلاص هايموت.. حايموت من الخضة.. أبوشنب فضة.. تفيت علي شنبه.. صدا بقي خرده.. يا مصر يا وردة.. شيل الحمام.. حط الحمام. أحببته من يومها تابعته فناناً متعدد المواهب في صباح الخير ومسرح العرائس والأهرام ثم أتاح لي كمال الجويلي صداقته انتظمت جلساتنا الأسبوعية في شقة إبراهيم عامر القريبة من مبني وزارة الأوقاف.
تبدلت ـ برحيل بهاء جاهين عادتي القرائية فأنا أبدأ بالصفحة الأولي أتصفحها وأتصفح بقية الصفحات عدا ما يهمني فإني أكتفي بقراءة العناوين احتفظ بما يحتاج إلي وقت أخصصه للقراءة وتسجيل البيانات والملاحظات.
لا أذكر متي صارت صفحة الوفيات هي أول ما أطالعه أتأمل أسماء الراحلين والناعين وما يقتصر علي الإبلاغ عن الوفاة والرجاء بقراءة الفاتحة "أذكر وصية النبيل يحيي حقي" وما يستدرك في الأيام التالية أسماء لم تتضمنها كلمات النعي المسهبة!
لاحظت ـ فيما بعد ـ أني أدقق في تواريخ ميلاد الراحلين والسنوات التي عاشوها في الدنيا أسأل عن ظروف الوفاة هل هي طبيعية لم تسبقها أو تصاحبها أعراض من أي نوع أو أنها نهاية رحلة مرض أو أن العمر اختصر في حادثة قاسية.
القضية ليست في عمر الإنسان قصر أو طال لكنها في التأثير الذي يخلفه قبل أن يرحل. ذلك التأثير تحقق في موسيقا سيد درويش وهو يجاوز عامه الثلاثين وفي لا منتمي كولن ولسون قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين وفي رواية مرحباً أيها الحزن لفرانسوار ساجان الأديبة ذات الثمانية عشر عاماً وفي دون كيخوتة لسرفانتس 73 عاماً بعد أن أخفقت أعماله السابقة الكثيرة في تقديمه إلي القارئ الأسباني.
من أولي محاولاتي الإبداعية قصة بعنوان برج بابل يتحدث فيها الراوي عن الموضع الذي يشغله في أي مكان يجلس أو يقف فيه بما يعني أنه كائناً بشرا يجد له موضع إنسان.
القيمة الحقيقية لوجود الإنسان في هذا العالم عندما يغادره بعد أن يخلف ما ينسب إليه اللي خلف مامتش مثل مصري يحدد تأثير المرء في الحياة بالإنجاب لكن التأثيرات تتعدد بتعدد إضافات المرء في الحياة في كل مجالات الحياة.
نحن نعرف ابن سينا وأديسون وماركوني وديستويفسكي ومحفوظ وزويل وإن كنا لا نعرف أسماء أبناءهم نعرف هؤلاء العظام من الآثار التي خلفوها في مجالات العلم والتكنولوجيا والآداب والفنون لكننا لا نعرف من يموتون فلا يلحظ غيابهم أحد وعندما يصبحون ماضياً لا يتذكرهم أحد.
المستقبل أمامنا إذا حاولنا الفعل نجاوز التواكلية والاعتذارية نهمل تقدم العمر والإعاقات والظروف الضاغطة نحاول الفعل والإضافة وصل محاولاتنا التي كانت بالمحاولات التي تريد التحقق جعل الإضافة هدفاً لا صلة لبلوغه بتقدم عمر ولا إعاقة جسدية ولا ظروف ضاغطة لا تتبدل صورة المستقبل ولا تتبدل نظرتنا إليه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف