المصرى اليوم
محمد نور فرحات
إجابات بديهية على أسئلة قديمة
الخطاب الرسمى فى الرد على انتقادات الممارسات ضد الحريات وحقوق الإنسان فى مصر يقوم على ركائز أربع. أولا: أن مصر تواجه حربا ضد الإرهاب وأنه لا حقوق للإرهابيين الذين يمارسون القتل والتخريب والترويع فى كل أنحاء مصر، وأنه فى الظروف الاستثنائية لابد من اللجوء إلى إجراءات استثنائية. وثانيا أن حقوق المجنى عليهم وضحايا الإرهاب من الشهداء والمتهمين والمصابين أولى بالرعاية من حقوق المجرمين. وثالثا أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كالحق فى التعليم وفى الصحة وفى المسكن والمأكل أولى من الحديث عن الحريات المدنية والسياسية. رابعا: أن لكل مجتمع خصوصياته وأنه يجب عدم تعميم المعايير الغربية للديمقراطية وحقوق الإنسان على الدول ذات الخصوصيات الثقافية.

وهذه بنصها نفس الحجج القديمة التى سمعها العالم من مندوبى الدول المشهور عنها انتهاكها للحريات فى كلماتهم بالمؤتمر العالمى لحقوق الإنسان فى فيينا سنة ١٩٩٣. لم يقتنع أحد فى العالم أجمع بأن الخصوصيات الثقافية تبرر التعذيب، أو تحرم المواطن من الحق فى المحاكمة العادلة، أو تسمح بالتمييز بين المواطنين، أو تتعارض مع حرية الرأى والتعبير، أو تصادر حق المواطنين فى المشاركة السياسية إلى آخر القائمة.

على العكس من ذلك تماما فالثقافات الشرقية القديمة والأديان قاطبة تعلى من كرامة الإنسان وحريته وتدعو للمساواة بين البشر. من قال بعدم أهلية أهل الشرق والمجتمعات الإسلامية للتمتع بالحريات الغربية هم مفكرون عنصريون أبرزهم منظرو النازية، والاستعماريون من أمثال اللورد كرومر الذى كان يرى أن شعوبنا لا تساس إلا بالسياط.

فى زمننا الراهن حسمت أدبيات حقوق الإنسان مسألة عالمية حقوق الإنسان وخصوصيتها بالتسليم بعالمية المبادئ وخصوصية التطبيق. وهناك حقوق بعينها لا يجوز التفريط فيها حتى فى الظروف الاستثنائية: كالحق فى سلامة الجسم وحرمة التعذيب والمحاكمة العادلة وحرية الرأى والتعبير. هذه مسائل مفروغ منها حسمها التراث الثقافى والدينى والحس الأخلاقى العالمى، ولا تجوز إعادة المجادلة فيها.

مرجعيتى فى الإجابة عن الأسئلة السابقة سترتكز على الوثائق الحكومية والمواثيق الدولية.

السؤال الأول حول التعارض المزعوم بين حماية الوطن من المخاطر وبين احترام حقوق الإنسان أجابت عنه المادة الرابعة من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية الذى صدقت عليه مصر سنة ١٩٧١ وأصبح جزءا من تشريعها الداخلى بقولها إنه: «فى حالات الطوارئ الاستثنائية التى تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، يجوز للدول الأطراف فى هذا العهد أن تتخذ، فى أضيق الحدود التى يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولى وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعى».

الإجابة على نفس السؤال قدمها التقرير الحادى عشر لعامى ٢٠١٥/ ٢٠١٦ الصادر عن المجلس القومى لحقوق الإنسان والذى قدم للسيد الرئيس ويقول « تبرز المشكلة فى التعامل مع الأمن وحقوق الإنسان فى اعتبار كل منهما نقيضا للآخر بدلا من الفلسفة الصحيحة. فالدولة القوية الحامية للأمن تمثل الركن الأساسى فى توافر حقوق الإنسان...ولا أمن ناجح ومستدام بغير احترام حقوق الإنسان.فالأمن هو عملية مجتمعية لا تتحقق بغير مساندة المجتمع للمؤسسات الأمنية (ص ٨).

هل يجب أن نحرم الإرهابيين من حقوقهم حتى نحمى المجتمع من شرورهم ونقدم حقوق ضحايا الإرهاب على حقوق المتهمين بالإرهاب؟. هذا السؤال وبهذه الصياغة لا يثار إلا فى مجتمعات الفوضى والممارسات المنفلتة. يقول تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). ومبدأ درء العقوبة بالشبهة مبدأ أصيل فى فجر الضمير الإنسانى. حقوق المتهمين المنصوص عليها فى الدستور وفى المواثيق الدولية وفى القوانين الوطنية أمر ضرورى، حتى نتأكد من مسألة أولية - أنهم هم المجرمون فعلا. ولنا سوابق يندى لها جبين العدل طاردنا فيها أبرياء وقتلنا منهم البعض ومارسنا مع البعض كل صور الزجر والانتقام ثم اتضحت براءتهم.

قيود الدستور والقانون المقررة لمصلحة المتهمين هدفها الوصول للحقيقة. انتهاكها يؤدى إلى اهتزاز منظومة العدالة لأن المجتمع ستهتز قناعته فى يقينية الإدانة أو البراءة. وحينئذ نتحول من مجتمع الدولة والقانون إلى مجتمع العصبة والقوة الغاشمة غير العاقلة. أى سنتردى من مرحلة الحضارة إلى مرحلة الوحشية BARBARIAN.

الرؤية الرسمية لمسألة الحريات السياسية وحقوق الإنسان عبر عنها الرئيس السيسى فى المؤتمر الصحفى الذى عُقد فى باريس مع الرئيس الفرنسى ماكرون يوم ٢٣ أكتوبر الماضى. وهى للحق رؤية مستقرة فى مصر شأنها شأن كثير من دول العالم الثالث والدول العربية منذ الستينات، ولم تتقدم للأمام قيد أنملة، بل صاغها بدقة ميثاق العمل الوطنى بمصر سنة ١٩٦١.

يحسب للرئيس وضوحه الشديد فى طرح هذه الرؤية بدلا من الصياغات المراوغة الناعمة التى يتبناها خطابنا الدبلوماسى فى المحافل الدولية.

قال الرئيس إن لدينا حوالى ٤٠٠٠٠ منظمة مجتمع مدنى. هذا صحيح، وأضيف إليه أنه صدر بشأنها قانون جديد للجمعيات مخالف للدستور، ومازال يثير إدانات دولية واسعة لأنه أحكم من قبضة أجهزة الدولة عليها وأفقدها حرياتها الدستورية.

قال الرئيس: من يريد أن يتحدث عن حقوق الإنسان فليتحدث بشكل مباشر مع الشعب المصرى. هذا قول حق فالمعرفة من مصادرها الأولى أصدق أنواع المعرفة، لذلك أحيل إلى تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان الذى تلقى فخامة الرئيس نسخة منه، وهو يتحدث عن مختلف صور الانتهاكات: عن تحول الحبس الاحتياطى والاحتجاز خارج إطار القانون إلى اعتقال، وعن تردى أوضاع مراكز الاحتجاز، وعن كثافة الأحكام بالإعدام التى يجرى نقضها، وعن عدم المساواة واستشراء التمييز فى الوظائف العامة، وعن إسقاط حق المتهمين فى وجوب السماع إلى شهودهم، وعن التعذيب الموثق الذى نتجت عنه الوفاة، وعن التأخر فى عرض المتهمين المحتجزين على النيابة العامة، وغير ذلك الكثير (طالع صفحات ٢ و٤ و١٣ و١٦ و٥٢) كما تناول التقرير تردى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية واستشراء الاحتكارات.

فى مؤتمره الصحفى المنوه عنه تحدث الرئيس عن تردى الحق فى التعليم والعلاج والتوظيف وغيرها من الحقوق الاقتصادية وأقر بها ودعا إلى الالتفات إليها بدلا من الحديث فقط عن الحقوق المدنية والسياسية (فلسنا مثل أوروبا المتطورة). ولكن أوروبا لم تصبح متطورة فى تلبية حاجات مواطنيها الأساسية وتنمية وعيهم إلا عندما كفلت لهم حرياتهم وحقوقهم المدنية والسياسية. الأفواه المكممة لا تستطيع أن تجأر بالشكوى من تردى السياسات. والمرتعشون لا يجرؤون على فضح المرتشين الفاسدين. وأشباه البرلمانات لا يراد منها أن تحاسب الحكومة على أخطائها. وغيبة الأحزاب السياسية وتخريبها من الداخل واعتقال قياداتها بقانون الإرهاب ستؤدى إلى انزوائها. واصطناع الأحزاب الأمنية واشتغال الأجهزة الأمنية بالسياسة سيؤديان إلى ضمور الأمن والسياسة معا، فلا أرضا قطعت ولا ظهرا أبقت.

تلك هى الإجابات البديهية على الأسئلة القديمة. ولا أحد يريد أن يعطى دروسا فى حقوق الإنسان لأحد. وأهل مكة أدرى بشعابها. ولكننا نريد أن نحادث بعضنا أولا قبل أن نحادث الآخرين WE NEED TO TALK.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف