الوطن
رجائى عطية
بين العلمانية والإسلام (5-7)
لا ثيوقراطية فى الإسلام!

ليس فى الإسلام ما ينكر أو يصادر مذهباً من المذاهب، أو يصادر حرية الناس فى التفكير الذى هو فريضة إسلامية، ولم ينكر الإسلام من هذه المذاهب إلاَّ المذهب الذى يدعى للحاكم سلطة إلهية، وكان النبى عليه الصلاة والسلام ينكر على الوالى أن ينتحل لنفسه ذمة الله، ويقول لمن يوليه أمراً: «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فأنت لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا».

وكان الفاروق رضى الله عنه يأبى أن يُقَال عن رأيه إنه مشيئة الله.

ويبدو أن أقرب الأقوال إلى سند السيادة فى الإسلام هو الرأى القائل بأنها عقد بين الله والخلق من جهة، وعقد بين الراعى والرعية من جهة أخرى، وأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.

باب الاجتهاد مفتوح

مؤدى ما تقدم، أن الإسلام لم يفرض نظاماً بعينه للحكم، وإنما وضع الأسس والمبادئ لنظام الحكم بعامة، وترك سعةً للتطبيق فى اختيار صور نظام الحكم وتفاصيله، وأتاح للمسلمين بهذه السعة أن يفاضلوا وأن يختاروا ما يرونه ملبياً لظروفهم، وفى بحبوحة تترك لهم مجال الاجتهاد مفتوحاً فى إطار المبادئ العامة التى لا يقع عليها خلاف فى أنظمة الحكم، دون أن يحتاجوا كما تقدم إلى استيراد من أفكار العلمانية أو سواها، أو استعارة ما ينبو أو لا يتفق مع دينهم وظروف وأحوال مجتمعاتهم.

فلا مواجهة إذاً فى شأن الدين والدولة بين العلمانية والإسلام.

العلم بين العلمانية والإسلام

قامت العلمانية فى أوروبا فى العصر الوسيط، لمقاومة المصادرة الكنسية وحجرها على العلم والعلماء، ولا حاجة بالإسلام لاستعارة تنظير العلمانية لمواجهة تراجع العلم إذا تراجع.

فمن فضائل الإسلام الكبرى، وأحد أبرز مقومات عالميته فى المكان والزمان، أنه مع احترامه وتقديمه للعقل، وتعويله عليه فى أمر العقيدة وفى أمر التبعة والتكليف، فتح للمسلمين أبواب المعرفة، وحثهم على ولوجها والسعى والتقدم فيها.. فلم يكن مصادفة أن «القراءة» كانت أول ما نزل من القرآن الحكيم، وأن «القلم» كان ما قفى به القرآن تقفية تورى بمكانة ومنزلة العلم والتعلم فى شريعة الإسلام.. فى سورة العلق.. أول ما نزل من قرآن، يأمر الحق تبارك وتعالى نبيه المصطفى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ. خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ». فما تكاد تنزل سورة العلق، حتى تتتابع الآيات تنبه رسول القرآن إلى روح وقوام الرسالة التى اصطفاه ربه للقيام بها.. ما إن توصيه بقيام الليل حتى تأمره «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً. إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً» (أول «المزمل»).. ثم يتبعها الحق بسورة من سور القرآن تتخذ من «القلم» اسماً وعنواناً لها.. تبدأ بقوله سبحانه وتعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ» (أول «القلم»).. ولا غرو فقد كان العلم أول ما زوّد به الله أبا البشر آدم: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ» (البقرة 31).

هذا احتفال بالعلم، وأدواته، قد حفر فى الإسلام أبرز مقوماته مع العقل لتحقيق العالمية الممتدة فى الزمان والمكان، وانفتحت به أبواب تلو أبواب، تحترم العلم وتقدسه، وتدفع المسلمين إلى النهل والتزود منه، واتخاذه غاية ومنهاج حياة.. حُث على ذلك رسول القرآن نفسه، فأوصاه القرآن بأن يجعل من طلب العلم دعاءً له إلى رب العالمين.. «وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً» (طه 114).. وجعل سبحانه من التعليم غايةً للرسالة ذاتها ولرسولها المصطفى.. «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ» (البقرة 151).. «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ» (الجمعة 2).. ولا يرتفع المسلم بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم: «يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» (المجادلة 11).. ومع أن «المساواة» مبدأ أساسى من مبادئ القرآن، إلاّ أنه لم يعتبر من المساواة المساواة الشكلية بين غير المتساوين، فذلك ظلم يرتد إلى نقيض المساواة: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (الزمر 9).. «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ» (آل عمران 7).. ولا يوصف المسلم بفضيلة أعز وأفضل من فضيلة الحكمة التى قوامها العقل والعلم.. «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْراً كَثِيراً» (البقرة 269).. ومن فضل الله تعالى على رسول القرآن ما آتاه من كتاب وعلم وحكمة.. «وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» (النساء 113).. وليس أعز فى تكريم العلم والعلماء من الآية الكريمة التى تقول: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» (فاطر 28).. والحق سبحانه وتعالى قرن ذوى العلم بالملائكة فى المعرفة الحقة بألوهيته وربوبيته ووحدانيته.. «شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ» (آل عمران 18).

والعلم المندوب إليه، المحرض على النهل منه هو فى الإسلام. كل علم.. العلم الذى قوامه التفكير والتأمل بالعقل للاهتداء من آيات الكون إلى خالقه.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ» (آل عمران 191).. العلم الذى يجعل الآدمى جديراً بأن يستخلف فى الأرض، وينهض برسالة الله، ويدرك إدراكاً حقيقياً شاكراً من واقع علمه وفهمه أن الخالق سبحانه قد سخر له هذا الكون كله لحكمة عميقة سامية تعبر تعبيراً ناطقاً حياً عن جلاله سبحانه وجماله وأفضاله.. وتدفع الآدمى عرفاناً وفهماً وتقديراً أن يكون جديراً بهذا الاستخلاف.. بالعلم والفهم والحكمة، والنشاط والسعى.. لعمار الأرض لا لخرابها.. لإثراء الحياة لا لإفقارها.

فالعلم بذلك وغيره «روح الإسلام»، وتراجعه إن تراجع مكفول العلاج والمداركة بمبادئ الإسلام ذاته، بلا حاجة إلى تنظير العلمانية أو سواها، فلا تعارض بين ما تتنادى به العلمانية من احترام العلم، وبين ما يتنادى به الإسلام من احترام للعلم والعلماء، وندب واجب إلى العلم، وتشجيع عليه، وأخذ بأدواته وسبله، وذلك يعنى فضلاً عن انتفاء التعارض الذى من أجله نهضت العلمانية فى أوروبا يعنى أنه لا مواجهة بين العلمانية والإسلام بصدد العلم، وأن ما تسعى إليه العلمانية مكفولٌ كفالة كاملة فى الإسلام.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف