الأهرام
اسامة الازهرى
لم نبدأ محاربة الإرهاب بعد
الفكرة المحورية التى تأسست عليها بقية مفاهيم التيارات الإسلامية هى فكرة الحاكمية، فإنها هى الجذر الذى نهضت على أساسه منظومتهم الفكرية بكل مقولاتها، ومفاهيمها، وفروعها، ومنها تولدت بقية مفاهيمهم:

فانبثقت منها فكرة: شرك الحاكمية وتوحيد الحاكمية عند سيد قطب وأخيه محمد قطب، وتولدت من ذلك فكرة العصبة المؤمنة، وفكرة الوعد الإلهى لهذه العصبة المؤمنة، وفكرة الجاهلية، التى هى حالة بقية المسلمين، وفكرة المفاصلة والتمايز الشعورى بين الفئتين، وفكرة الاستعلاء من العصبة المؤمنة على الجاهلية وأهلها، وفكرة حتمية الصدام بين الفئتين عند سيد قطب، وفكرة التمكين، إلى آخر شجرة المفاهيم التى نتجت من قضية الحاكمية، والتى تتكون من مجموعها نظرية متكاملة داخل عقل تلك التيارات. وهى مجموعة من الأفكار، تغزو عقل المتدين، فيتحول بها من متدين إلى متطرف، ثم من متطرف إلى تكفيري، ثم من تكفيرى إلى قاتل يحمل السلاح ويسفك الدماء.

- عند التفتيش عن الخيط الناظم، والمنجم الفكري، الذى تولدت منه كل تلك الأطروحات، تبين أنه كتاب: (ظلال القرآن)، وأن ما سواه من كتب سيد قطب ككتاب: (معالم فى الطريق) فما هى سوى مقتطفات من كتاب (الظلال). ويؤكد ذلك أن صالح سرية وكتابه: (رسالة الإيمان)، التى تنادى بتكفير الحكام وجاهلية المجتمع واعتباره دار حرب قد نبعت من سيد قطب وكتابه (ظلال القرآن)، وأن شكرى مصطفى وتنظيم التكفير والهجرة قد انبثق من (ظلال القرآن)، وأن محمد عبد السلام فرج وتنظيم الجهاد وكتاب: (الفريضة الغائبة) كذلك، انتهاء بتنظيم (داعش).

وبيان ذلك أن تركى بن مبارك البنعلي، كتب كتابا عن الرجل الثانى فى (داعش): أبى محمد العدناني: طه صبحى فلاحة، واسم كتابه: (اللفظ الساني، فى ترجمة العدناني)، فذكر أنه تأثر جداً بتفسير (ظلال القرآن) لسيد قطب، وأنه كان من أحب الكتب إلى قلبه، حتى عكف عليه عشرين سنة، وهم بكتابته بخطه).

وقال صالح سرية في: (رسالة الإيمان): (إن الحكم القائم اليوم فى جميع بلاد الإسلام هو حكم كافر فلا شك فى ذلك، والمجتمعات فى هذه البلاد كلها مجتمعات جاهلية)

فتبين من ذلك أن تنظيم داعش فى حقيقته، إنما هو فى الحقيقة موجة جديدة من أمواج الفكر التكفيرى المنبعث من (ظلال القرآن)، وأن كتاب: (الظلال) هو القاسم المشترك، والخيط الناظم، والروح السارية، لكل تلك التيارات التكفيرية.

فنحن أمام سياق فكرى مختل، بل هو متحير بشدة فى تشخيص الواقع وتوصيفه، وفى اقتراح حلوله، وفى كيفية تخريج جزئياته على أصول الشرع الشريف، حتى انتهى الأمر بهم إلى حتمية الصدام مع أهل الأرض كلهم، تلك الفكرة التى كانت بذرتها عند حسن البنا فى (رسالة المؤتمر الخامس)، ثم اتسع الكلام فيها عند سيد قطب في: (ظلال القرآن)، ثم تحولت إلى دمار تام وشقاء تام على يد داعش في: (إدارة التوحش).

وأسجل هنا أن رسائل المؤتمر الخامس لحسن البنا تمثل فكرا صارخا فى غاية الغرابة، مشحونا بجو نفسى متشنج، مفعم بالصراع والصدام، كأنك ترى فيه الصورة الأولية لداعش.

ومن وراء كل ذلك مناجم من الكتب والمؤلفات والمواد المرئية على قنوات (يوتيوب) من فكر سلفى تكفيرى يغرق العقل وطريقة التفكير فى مفاهيم البدعة والتكفير ورمى الناس بالفسوق، فإذا التقى هذا الفكر مع حركية الإخوان والقطبيين اشتعلت الحرائق فى كل شيء، وولدت داعش فى لحظات.

وجاءت فترة الثمانينيات والتسعينيات فظهرت كتب كثيرة تنظر لهذا الفكر، مثل كتب سيد إمام، وكتب أبو مصعب السورى، حتى إنى أجزم أن «الإنترنت» حافل بنحو الألف كتاب من الكتب الناقلة للفكر التكفيرى التفجيرى.

ثم حصلت فى السنوات الأخيرة طفرة هائلة فى ذلك كله، حيث توجهت داعش والقاعدة وبوكو حرام وأنصار بيت المقدس، وحركة حسم، وقنوات الإخوان كالشرق ورابعة وغيرهما إلى تحويل هذا الفكر التكفيرى إلى حالة الشعبوية والمصطبة كما يسمونه هم، وتدشين كل هذا التكفير والتحريض على الصدام فى عشرات الألوف من صفحات السوشيال ميديا، ثم فى الأشهر الأخيرة توقفت تلك التيارات عن إصدار الكتب الإلكترونية والمجلات التكفيرية الإلكترونية، وتحولت إلى بث هذه المواد على الصفحات الإباحية، وصفحات الجيمز وألعاب الأطفال، وصفحات الموضة، وغير ذلك من الجانب المظلم العشوائى فى الإنترنت.

وفى كل هذا الخضم من الأحداث المتلاطمة تغيب كل مقاصد الشريعة التى جاءت بالحياة (ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيا النَّاسَ جَمِيعًا)، وبالخلق العظيم (وِإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم)، وبالحضارة، وبالتمدن، وبالرحمة للعالمين (وما أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَةً للعَالَمِين)، وبالتعارف مع كل الحضارات والشعوب (وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، وحفظ الأنفس والعقول والأعراض، واحترام الأكوان (الحَمْدُ لله رَبِّ العَالمـَين)، وإكرام الإنسان مطلق الإنسان (ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آَدَم)، وازدياد العمران (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَركُمْ فيها).

وتبقى القضية الأخيرة التى أختم بها، وهى أن المؤسسات الفكرية المنوط بها المجابهة والتفنيد وتحصين العقول ما زالت تزحف ببطء، وتدعى النجاح، وتنكر الواقع، بجوار هذا الجنون المنطلق بسرعة هائلة، ولذا فنحن لم نبدأ فى مواجهة الإرهاب إلى الآن.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف