الأهرام
محمد سلماوى
ما الذى حدث فى اليونسكو؟
اذا أردنا تقييم التجربة الأخيرة التى خاضتها مصر للحصول على منصب مدير عام اليونسكو، فإن علينا أولا أن نعرف ما حدث بالضبط فى هذه المعركة التى انتهت بفوز المرشحة الفرنسية التى قوبل ترشيحها فى البداية بكثير من الامتعاض، ليس فقط من جانب العرب وانما داخل فرنسا ذاتها، سواء على مستوى الصحافة أو داخل مجلس الشيوخ الفرنسى، فكيف انتهى الأمر بأن أيدتها الدول التى لم تكن مرتاحة لترشيحها ومن بينها مصر؟ ثم علينا أن نعرف أيضا خريطة الضغوط التى مورست أثناء الانتخابات ووصلت الى حد الابتزاز السياسى، وأن نقيم أداء مصر فى المعركة، ثم علينا أخيرا أن نحاول بيان طبيعة المرحلة المقبلة فى تاريخ اليونسكو والتى ستختلف تماما عما عرفناه عنها طوال أكثر من 70 عاما.

فإذا جئنا للموضوع الأول حول ما حدث فى الانتخابات وكيف وصلنا لهذه النتيجة، وهو ما سنفرد له هذا المقال، نجد أن اللوبى اليهودى الذى تصدى فى جميع التجارب السابقة للمرشحين العرب، قد غير من وسائله للوصول فى النهاية الى نفس الهدف، وهو الحيلولة دون وصول العرب الى إدارة اليونسكو، فالتحرك اليهودى الذى أعلن على الملأ فى انتخابات 2009 رفضه المرشح العربى الأقوى وهو الفنان فاروق حسنى، اختار هذه المرة أن يعمل فى الخفاء، ومن المعروف أن مجلس المنظمات اليهودية الفرنسية CRIF قد أكد للمرشح الرئاسى إيمانويل ماكرون دعمه له فى معركة الرئاسة، وطلب منه فى نفس الوقت دعم المرشحة الفرنسية ذات الأصول اليهودية التى رشحها الرئيس السابق فرانسوا أولاند، وأن يتعهد بأن فرنسا ستعمل على وضع حد لما وصفه الـ CRIF بالانحياز ضد اسرائيل ومناصرة العرب، ولم يعد سرا أن اللوبى اليهودى يقف وراء المرشحة الفرنسية بكل قوة، لكنا لم نجد أى تعبير علنى عن هذا التأييد، وحين انفلت لسان المندوب الإسرائيلى فى اليونسكو كارمل شاما ــ هاكوهين المعروف بتهوره، وقال أخيرا إن العرب يمثلون خطرا على اليونسكو، ذاكرا بالتحديد مصر وقطر، عاد وتراجع بسرعة عن تصريحه الذى خرق أسلوب العمل فى الخفاء الذى اتبعه اللوبى اليهودى هذه المرة.

العنصر الثانى الجديد هذه المرة فى أسلوب عمل اللوبى اليهودى هو تضخيم قوة الخصم مع بيان خطره بدلا من العمل منذ البداية على التقليل من حجمه، وقد اندهش الكثيرون فى البداية من التقدم السريع الذى حققه المرشح القطرى والذى وصل الى حد حصوله على أعلى الأصوات حتى الجولة الأخيرة، دون أن يدركوا، ولا أدرك المرشح نفسه، أن الكثير من الأصوات التى ذهبت اليه فى البداية لم تكن له، وأنها هى ذات الأصوات التى ذهبت فى النهاية للمرشحة الفرنسية، فهل كان هذا مقصودا؟ هل تم توجيه بعض الأصوات لتضخيم قوة المرشح القطرى وفى الوقت المناسب عادت هذه الأصوات الى فرنسا؟ ولقد اتخذت خطة تأكيد الخطر القطرى 3 مسارات: أولا اتهامها باستخدام ما يسمى المال السياسى، وقد نشرت مجلة «جون أفريك» قائمة الأعضاء الذين قالت إنهم تلقوا المال من قطر، وثانيا اتهامه بالعداء للسامية، وثالثا التذكير بانتمائه لدولة تدعم التطرّف الإسلامى، وقد نشر موقع «أتلانتيكو» أن المرشح القطرى إسلامى متطرف (وهو غير صحيح) وأنه كتب مقدمة لكتاب معاد للسامية، وقد تزامن ذلك مع تصريح المندوب الاسرائيلى بأن قطر ومصر يمثلان خطرا على اليونسكو والذى تلاه إعلان الولايات المتحدة انسحابها من اليونسكو بسبب تزايد النفوذ العربى الذى أدى ــ حسب البيان الأمريكى ــ الى انحياز المنظمة ضد اسرائيل.

على أن فرنسا وجدت أن تنافسها وهى بلد الثقافة والنور ضد قطر سيمثل مقارنة صارخة تنتهى حتما لصالحها، بينما تنافسها ضد دولة عربية أخرى صاحبة تاريخ حضارى وثقافى عريق مثل مصر سيكون أصعب، وقد اجتمعت المرشحة الفرنسية بمرشح قطر فى أشد أوقات المعركة الانتخابية دون أن تعلن ذلك، لكن المرشح القطرى نفسه تباهى بمسانده فرنسا له فوضع صورة لقائهما على حسابه الشخصى على تويتر، فاندهش الكثيرون ممن لم يكونوا يعرفون بأن فرنسا انما تستخدم قطر لضمان فوزها فى الانتخابات. وهذا يعنى أن المعركة الحقيقية فى الانتخابات كانت بين مصر وفرنسا، وقد جاء الترشح الفرنسى فى الأصل للحيلولة دون وصول مصر لهذا الموقع بعد أن بدا موقف المرشحة المصرية قويا، فتم اختيار مرشحة فرنسية تتمتع بنفس مزاياها دون كفاءتها، فهى امرأة مثلها، وهى ذات أصول عربية أيضا، وإن كانت قد أصرت دائما على أنها فرنسية وليست مغربية، وزادت على ذلك أنه ليس هناك ما يحتم إختيار مدير عام عربى لليونسكو، ثم أن مساندة اللوبى اليهودى يعطيها قوة إضافية فى مواجهة مصر.

يضاف الى ذلك أن فرنسا بذلت جهودا كبيرة فى أفريقيا مكنتها من الحصول على الكثير من أصوات الدول الفرانكوفونية التى تربطها بها علاقات وثيقة خاصة فى المجال الثقافى، ضاربة عرض الحائط، هى وإفريقيا، بقرار القمة الأفريقية فى يوليو الماضى الذى اعتبر السفيرة مشيرة خطاب المرشحة الرسمية للقارة الإفريقية، ويصل عدد الدول الإفريقية داخل المجلس التنفيذى لليونسكو الى 17 دولة كان يفترض أنهم جميعا من حق المرشحة المصرية، لكن من بين الأصوات الـ11 التى حصلت عليها مصر فى الجولة الأولى من جميع المناطق الجغرافية، لم يكن هناك أكثر من 7 أو 10 أصوات على الأكثر من إفريقيا، أى أن نصف عدد المندوبين الأفارقة فى المجلس التنفيذى خالفوا قرار رؤساء دولهم فى هذا التصويت السرى (!).

ولقد وصل التنافس بين مصر وفرنسا الى ذروته فى الجولة الإضافية التى خصصت لاختيار من منهما ستواجه ذلك الوحش الخرافى الذى خلقته فرنسا «كفزاعة» تخيف بها العالم، ولما كان المرشح القطرى قد حصل على 22 صوتا فقد كان بإمكانه توجيه الكثير منهم (وليس من أعطتهم له فرنسا) لتأييد واحدة من المرشحتين المصرية أوالفرنسية فى الجولة الإضافية، لكن يبدو أن الأزمة الحالية بين قطر والرباعى العربى كانت العامل الحاسم فى عدم توجيه هذه الأصوات لمصر رغم أن لم يكن من الصعب إدراك أن التنافس بين قطر وفرنسا على أعلى منصب ثقافى دولى كان فى جميع الأحوال سيحسم لمصلحة فرنسا، وربما كان هذا هو الدافع وراء تأييد مصر فى النهاية لفرنسا، دولة المقر التى ناصبتها العداء منذ البداية.

أما الابتزاز السياسى الذى مارسته الولايات المتحدة وإسرائيل فى هذه المعركة التى خاضتها مصر بشرف وكفاءة، فتلك قصة أخرى تحتاج إلى مقال آخر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف