بوابة الشروق
تمارا الرفاعى
فى الدرجة الاقتصادية لا يحدث شىء
سلكت ممرا خاصا دخلت فيه مع عدد صغير من المسافرين إلى الطائرة. جلست فى مقعدى الكبير المريح ووضعت أشيائى فى الأماكن المخصصة لذلك. شكرت المضيفة على المنشفة الساخنة المطوية التى ناولتنى إياها بملقط حتى لا تلمسها بيديها، ومسحت بها وجهى قبل أن أضعها فى طبق مخصص للمناشف المتسعملة مدته لى أيضا المضيفة. قلبت فى القنوات المتاحة على متن الرحلة واخترت أفلاما تسلينى فى الساعات الطويلة ريثما نعبر المحيط. عرضت المضيفة على عدة مرات الطعام والشراب والوجبات الخفيفة بل وأعطتنى أيضا مستلزمات النظافة الشخصية التى قد أحتاجها خلال الرحلة الطويلة.
***
هكذا مرت نحو اثنتى عشرة ساعة بسلاسة، بينما عدلت أنا من جلستى فى الكرسى الكبير عدة مرات، فنمت قليلا، ثم قرأت بعد أن وضعت الكرسى فى وضعية نصف مائلة، ثم أعدت الكرسى جالسا تماما لأشاهد فيلما على الشاشة الصغيرة أمامى. طوال الرحلة كان الجو من حولى هادئا حتى إننى تلفتت يمينا ويسارا عدة مرات لأتأكد من وجود أشخاص آخرين فى الكراسى قربى، فقد خيمت على المكان سكينة بدت لى غريبة فجأة، فى منتصف الطريق. إذ لم أسمع بكاء الأطفال ولا احتجاج الركاب على عدم تلبية المضيفة لطلباتهم. ولم ينشأ شجار بين الركاب بسبب أكياس أحدهما الكثيرة وتعديها على مساحة الراكب الثانى.
***
لم أشعر، وأنا فى الكرسى الكبير وفى الجو الهادئ، بما يحدث فى الكراسى الأضيق من خلفى. فى قسمى من الطائرة لا يحدث شىء يعكر مزاجى. الخدمة ممتازة وطاقم الطائرة مبتسم، وهو ما ينعكس على وجوه من حولى فتجدهم يكادون يهمسون طلباتهم من كأس الماء إلى سماعة الأذن، السؤال يخرج من فمهم برفق والجواب يأتيهم من المضيفة كمسحة على شعرهم.
من السهل جدا لمن يجلس فى قسم الدرجة الأولى أن يتجاهل تماما وجود الدرجة السياحية أو الاقتصادية. قد يتجاهلها عن عمد لكن على الأغلب هو يتجاهلها لأنها لا تصل إليه، لا بضجيجها ولا بازدحام أماكنها ولا بطاقة أطفالها. فى الدرجة الأولى العالم مستقر، حركة الناس منظمة، إيقاع العمل ثابت والنتائج تأتى بقدر التوقعات، توقعات الدرجة الأولى.
***
هما عالمان مختلفان تماما يصعب على تخيل إمكانية أن يلتقيا. سكان العالمين يلتقون فى المطار لكن سرعان ما يفترقون بعد إجراءات السفر الأمنية فيذهبون إلى أماكن انتظار مختلفة قبل أن يتوجهوا إلى الطائرة ليدخلوها من أبواب مختلفة أيضا. هم يقومون بالرحلة ذاتها لكن من زوايا شديدة الاختلاف قبل أن يلمحوا بعضهم بعضا عند الوصول إلى الطرف الآخر من الرحلة، فيعودون ويفترقون فى زحمة المدينة.
***
وبما أننى سافرت على الدرجة السياحية فى اتجاه وعدت فى قسم الدرجة الأولى فى اتجاه الرحلة الثانى، فقد سمعت راكبة فى الدرجة الاقتصادية تشتكى من سوء المعاملة وتتهم طاقم الطائرة بعدم الاكتراث بركاب درجتها، انتقدت اهتمام شركة الطيران بركاب الدرجة الأولى فقط. أما فى طريق العودة، فكان فعلا من الممكن تجاهل القسم الثانى من الطائرة تماما، والاعتقاد بأن الطائرة هى الدرجة الأولى فقط.
***
طبعا فى وصفى بعض التعميم، كما فيه أيضا شىء من الكاريكاتور لكننى هكذا عشت خطى الرحلة ذهابا وإيابا. كما فى وصفى الكثير مما أعيشه فى الحياة الحقيقية. لا شك أن عالم الدرجة الأولى فى الحياة شديد البعد عن عالم الدرجة الاقتصادية، ومن السذاجة أن أتوقع عالما كله درجة أولى، كما أن بناء عالم كامل يعيش فى الدرجة الاقتصادية لم يتحقق. فمن وجهة نظرى إن محاولة تسطيح الدرجات فى الحياة بحيث تتساوى غير ممكن، ولا حاجة للدخول فى نقاشات محتدة عن نجاح أو فشل النظريات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، كالاشتراكية والشيوعية والرأسمالية.
***
ما شغلنى خلال الرحلة هو سهولة أن يتغاضى العالم المرتاح عن الصعوبات التى يواجهها العالم الأقل حظا. كما تساءلت عن سهولة انفجار العالم التعب غضبا حتى من أمر قد يبدو بسيطا. إذ قد لا تكون أكياس الجار فى الكرسى هى السبب الرئيس لغضب المسافر. وقد لا يكون الجار المحمل بالأكياس يستحق تيار الشتائم التى تنهال عليه. لكن من شعر بأن شخصا يشبهه مقاما إنما حمل أكثر منه قد سمح لنفسه أن ينتهك كرسيه الضيق الذى حصل عليه أصلا بعد عناء، ذلك الشخص قد ينفجر بشكل عنيف وغير متوقع.
***
ماذا يفعل عندئذ أصحاب المسئولية على متن الطائرة، أى المضيف المسئول عن ذلك القسم؟ يتدخل بمزيج من اللطف والحزم، يحاول تهدئة المسافر الغاضب، ينهر المسافر المحمل أكثر مما تسمح به الطائرة، ثم يضع أشياءه فى مكان آخر، فوق رأس مسافر لم يأخذ هو أكياسا فى سفره. هل تم حل المشكلة؟ نعم وإن بشكل آنى وموضعى. هل هدأت النفوس؟ ربما وبشكل يسمح لمتابعة الرحلة دون خسائر.
***
فى الدرجة الأولى فى أول الطائرة، يسأل المسافرون عن مصدر الضوضاء التى تصل إليهم، فقد طارت بعض الكلمات الغاضبة وربما النابية فدخلت إليهم عبر الستارة المخملية التى تفصل العالمين. لا شىء، يجيب المضيف، لم يحدث شىء سوى بعض الفوضى من قبل أشخاص تم تهدئتهم بسرعة. المهم هل أنت مرتاح؟ هل تحب أن تشرب شيئا؟ لا تقلق، كل شىء على ما يرام يا فندم، رحلة سعيدة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف