الأهرام
سمير الشحات
الرأسمالية.. إرهاصات موت قادم!
لا يمكن لأى متابع بعمق لما يجرى الآن على الساحة العالمية من اضطراب وأزمات وعنف دموى وإرهاب واهتزاز لليقين إلا أن يسائل نفسه: ماذا يجري؟ لماذا هذا الارتباك الذى يكاد يبلغ حد الفوضي؟ أين الخلل بالضبط؟ وما السبيل إلى الخلاص؟

الواقع أن التحليلات والتفسيرات عديدة، من بينها أن البعض من عاشقى قراءة الفلسفة عادت تحوم فى رءوسهم من جديد هذه الأيام ( ولو على استحياء ) أطياف أفكار قديمة كان قد تحدث بها الفيلسوف الألمانى الأشهر كارل ماركس، والتى كانوا قد ظنوا أنها عفا عليها الدهر.

من تلك الأطياف ما كان الرجل قد ملأ به كتابيه الشهيرين المانفيستو الشيوعى (صدر عام 1848 )، ورأس المال ( فى عام 1867) عن أن الرأسمالية مثلها فى ذلك مثل أى حقبة إنسانية أخري- هى مجرد مرحلة من مراحل التطور سوف تأخذ وقتها ثم تمضي.

ولسنا هنا بمعرض إعادة سرد تفاصيل نظرية هذا الفيلسوف (إذ الشرح فيها يطول)، وإنما التذكير فقط بنبوءته بأن الرأسمالية سيأتى عليها يوم وتموت كما مات ما قبلها من الأيديولوجيات والتجارب البشرية الكبري، وذلك نتيجة لتناقضات جوهرية فى بنيتها الداخلية.. فهل استفحلت أمراض الرأسمالية العُضال إلى الدرجة التى يمكن معها المغامرة بالقول إن ما نراه الآن ليس سوى إرهاصات موت قادم؟

هنا يتحدث هؤلاء «الحالمون بالموت» عن البعض من الأعراض، أولها أن الرأسمالية كى تستمر وتبقى عفية تحتاج إلى أسواق شاسعة لتصريف منتجاتها، حيث إنها كلما باعت سلعًا وخدمات أكثر حازت على ثروات أكبر تسمح لها بالمزيد من التمدد والانتشار.. فهل بقيت لدى الفقراء أسواق للتمدد؟

الواقع يقول: لا. لماذا؟ لأنك عندما تركز ثروة العالم فى أيدى قلة قليلة من الناس (المليونيرات) فإنك تجعل البقية الباقية منهم والذين هم الأغلبية فقراء، وبالتالى تنخفض قدرتهم على شراء منتجاتك، ومن ثم تبور سلعك فى مخازنها وتغلق مصانعك أبوابها وترتفع معدلات البطالة.. فهل هناك رأسمالية بدون بيع وشراء؟

إحصائيات منظمة فوكسهام (البريطانية غير الحكومية) أشارت أخيرًا إلى أن ثروة 1% فقط من سكان العالم تفوق ثروات بقية سكان العالم كلهم، وأن ثروات 62 شخصًا فقط تزيد على ثروات سكان نصف الكرة الأرضية الفقراء. انعدام العدالة هذا فى توزيع ثروة الدنيا لا يفقد الرأسمالية فقط أسواقها، بل الأخطر من هذا أنه سيفقدها الجوهر الأخلاقى الذى طالما تشدقت به بأن غايتها العظمى هى خدمة أكبر عدد من البشر من خلال سياسات السوق المفتوحة وحرية التجارة.

ويتهامس هؤلاء القائلون ببدايات الموت المعلن للرأسمالية ثانيًا- بأن القوة الرائدة الكبرى للمنظومة الرأسمالية ( الولايات المتحدة) قد بدأت مشوار أفولها. ويشددون على أن ما نراه حاليًا من إسراف فى استخدام القوة والحروب واللجوء إلى العنف ـ سواء مع الشعوب الأخرى أو حتى داخل شوارع ومراقص أمريكا نفسها- ليس إلا نبضات متشنجة ترهص بالنهاية المحتومة!

ويذهب البعض من المفكرين إلى أن القدوة الأخلاقية التى ظلت أمريكا تدّعيها ها هى تتآكل يومًا إثر يوم، ولم يعد الكثيرون يصدقون ما يتم تكراره فى واشنطن عن جدوى الديمقراطية، أو حلاوة الليبرالية، أو جمال الحلم الأمريكى (على رأى الفيلم الشهير الذى حمل نفس الاسم.. الجمال الأمريكي).

ويدلل هؤلاء على ذلك بأن حوادث التاريخ تنبئنا بأن الإمبراطوريات العظمى السابقة بدأت رحلة نهايتها واضمحلالها بالإسراف فى استخدام العنف داخليًا وخارجيًا، وإراقة شلالات الدماء، وهو ما نراه على الشاشات كل يوم، وما الزيادة المجنونة الحالية فى مبيعات السلاح الذى تنتجه المنظومة الرأسمالية إلا مؤشر ضعف وليس برهان قوة. أصحاب هذا التمنى بموت التجربة الأكثر إيناعًا فى حياة البشر (الرأسمالية) يروجون ثالثًا- لأن ما نراه اليوم من انهيار للدول القومية ما هو إلا مظهر آخر من مظاهر المرض، وما تلك الاستفتاءات الشعبية المتتالية والمتفشية كالوباء، والراغبة بجنون فى الانفصال عن الدولة الأم فى القلب الرأسمالى إلا الطفح الناتج عن المرض المتأصل، وهو طفح مرشح للانتشار فى الكثير من أعضاء الجسد ولن يقتصر على الجِلد فحسب.

ويأبى المؤمنون بالموت القادم على مهل إلا أن يذكروا لنا ما يجرى فى تلك اللحظة فى إقليمى كاتالونيا والباسك الإسبانيين، وما سيجرى بعد أشهر قليلة فى اسكتلندا البريطانية وقد تتبعها أيرلندا، أو فى البندقية وميلان الإيطاليتين، أو فى كيبيك كندا.. ولم ينسوا الإشارة إلى البريكست البريطانى عن الاتحاد الأوروبي.. والبقية تأتي!

مؤشرات عديدة تشى بأن هذه الاستفتاءات إلى جانب كونها رغبة جياشة فى نفوس أبناء تلك الشعوب المستفتاة نتيجة لشعورهم بعدم العدالة فى توزيع موارد تلك الدول بين الأقاليم المختلفة فإن الأمر لا يخلو كذلك من رائحة مؤامرات تحيكها بعض الأذرع الدولية الرأسمالية ضد أذرع أخرى رأسمالية أيضًا.. (وهكذا فقد بدأ الجسم يأكل بعضه بعضًا).

مسألة موت الرأسمالية هذه ليست جديدة، وكم قتلها الباحثون بحثًا. ورغم أن الكثيرين يرفضون هذا الطرح من أساسه ويتهكمون على نبوءة ماركس قائلين إن الرأسمالية هى نهاية التاريخ ودرة التاج فى مسيرة الإنسان الباحث عن الرفاه والسعادة والأمان، إلا أن تناقص معدلات الإحساس بالأمان والسلام والشبع كل يوم بل كل ساعة بين الناس الآن تجعل طرحها مجددًا مسألة مشروعة.

لكن سيبقى السؤال المنطقى هو: لنفرض أن الرأسمالية ماتت وقُبرت.. فما النظام البديل لها؟ ثمة إجابات عديدة منها: ما الذى يمنع عودة الاشتراكية من جديد لكن هذه المرة على نطاق عالمى وليس داخل الدول فحسب؟ على كل حال فإن القضية تستدعى النقاش.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف