فيتو
رمضان البية
لغة المعاني والإشارات
لكل قوم لغة يتخاطبون بها فيما بينهم لا يعرفها غيرهم ولأهل الله لغة خاصة بهم ساقوا فيها الحكم في العبارات وأخفوا المعاني في الإشارات، وكل لبيب بالإشارة يفهم وما يذكر إلا أولو الألباب، جعلنا الله تعالى منهم، وفتح على قلوبنا بأسرار اسميه تعالى الفتاح الوهاب، هذا وقد ينكر البعض عليهم ويرد أقوالهم وقد يصل الأمر إلى اتهامهم بالجنون والشطح والخروج عن الشرع الحنيف وينصبون لهم العداء ويرمون بعضهم بالكفر والتفسق، ولعل لهم العذر فأقوالهم فوق نطاق العقول المعقولة والإنسان بطبيعته عدو ما يجهل ولكن من الإنصاف طلب الفهم والإيضاح، وعلى من لا يقر ألا ينكر حتى لا يحرم من بركة وسر أقوالهم.

ومن هذه المخاطبات التي لا يدركها أحد غير أهلها ما كان بين أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب والصحابي الجليل سيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنهما عندما التقيا في صباح يوم وتصافحا وسأل سيدنا عمر أبا ذر بقوله: كيف أصبحت يا أبا ذر، فرد أبو ذر قائلا: أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق وأصبح عندي ما ليس عند الله تعالى، فأنكر عليه سيدنا عمر قوله وهم بتعنيفه، فإذ بالإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه يقبل عليهما ويسأل عن الخبر، فيقول له سيدنا عمر: أنظر يا أبا الحسن إلى ما يقوله أبو ذز، فيسأل الإمام ماذا قال يا أمير المؤمنين، فيخبره عمر، ويرد الإمام علي قائلا: لقد صدق يا أمير المؤمنين، فيتعجب عمر ويقول: كيف يا أبا الحسن، فيقول الإمام على: إنه يقول أصبح يحب الفتنة أي يحب ماله وولده والمال والبنون فتنة، ويقول وأكره الحق أي يكره الموت، فالموت حق ومن منا يحبه يا أمير المؤمنين، ويقول أصبح عنده ما ليس عند الله تعالى أي أصبح عنده الزوجة والولد وليس لله تعالى زوجة ولا ولد، فاستراح صدر عمر، وقال: صدق من قال فيك، أنا مدينة العلم وعلي بابها،عليه الصلاة والسلام.

هذا وقد ترك لنا أصحاب لغة المعاني والإشارات أقوالا حوت من المعاني وأنوار المعارف ما يحيي القلوب والأرواح ويشرح الصدور ويقرب بل يزيل المسافة المتوهمة التي بين العبد وربه تعالى، وبدلا من محاولة فهمها والانتفاع بها أنكروا وكذبوا وألصقوا التهم بأهلها، ولعل سبب ذلك قصور الفهم لديهم ووقوفهم عند ظاهر أقوال الشرع الحنيف بعدما غاب عنهم أن هناك علوما تسمى بعلوم الحقائق والمعارف، وعلم القلوب، وهي علوم لا تحصل بالقراءة والاطلاع، ولا توجد في كتب أصلا، فهي علوم فيض إلهي توهب وتمنح من الله عز وجل لمن يصطفى ويجتبي من عباده.

وهذا العلم أشار الله تعالى إليه في قرآنه من خلال قصة سيدنا الخضر مع كليم الله ورسوله سيدنا موسى عليهما السلام حيث قال الله مخبرا عن سيدنا الخضر عليه السلام: "عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما"، ومعلوم أن علم الله غير قاصر على علوم الشرع التي حوتها الرسالة المحمدية، فهناك علم يسمى بعلم الحقائق وعلم المعارف، وهناك علم مكنون وعلم مخزون لا أول له ولا آخر يخص الله به من يشاء من عباده، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وفي إشارة إلى هذا وخصوصيته قال الله تعالى على لسان سيدنا يعقوب عليه السلام: "إني أعلم من الله ما لا تعلمون"، والله علم الإنسان مالم يعلم وعلمه تعالى لا منتهى له.

هذا ولقد كان من فضل الله على العباد أن جعل لهذا العلم بابا وجعل له سبحانه مفتاحا وهو تقواه عز وجل حيث قاال: "واتقوا الله ويعلمكم الله"، هذا ومعلوم أن العبد إذا استقام على أمر ربه عز وجل واهتدى بهدي نبيه عليه وعلى آله الصلاة والسلام فتح الله على قلبه ومنحه فهما ربانيا وجعل له نورا يرى به ويسمع وينطق.

هذا وفي قول مأثور عن حبر الأمة سيدنا عبد الله ابن العباس رضي الله عنهما إشارة لهذا العلم وهذه اللغة قال فيه فيما معناه، أن بصدره علم لو أباحه ونطق به لاستحل مسلمون دمه ووجدوا أقبح ما يأتونه، أي قتله، حسنا، هذا ولقد كان من الحكمة النبوية ورحمة بالعقول قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم"، المهم إن لم نقر فلا ننكر حتى لا نحرم من بركة وسر أقوال العارفين بالله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف