الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
وكتاب مرقس فهمى
أواصل حديثى عن المؤلفات المجهولة، أو المنسية التى ناقشت قضية المرأة حين أثارها قاسم أمين قبل أكثر من مائة عام فصدرت هذه المؤلفات التى بلغ عددها فى بعض التقديرات مائة كتاب بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكان صدورها عملا من أعمال النهضة، سواء وقف أصحابها مع قاسم أمين أو وقفوا ضده، لأن القضية التى ناقشوها لم تكن قضية المرأة وحدها، وإنما كانت قضية النهضة المصرية التى تنتفع بالتأييد وتنتفع أيضا بالمعارضة، لأن المعارضة حين تبتعد عن الإثارة والغوغائية تفتح المجال للحوار ومراجعة الأفكار والاحتكام للعقل وهو الميزان الذى يظهر الحق وينصر أصحابه.

ونحن نرى أن الذين أيدوا الدعوة لتحرير المرأة فى بدايتها كانوا أقلية محدودة من الفئات المستنيرة وأن عامة المصريين عارضوها تشبثا بالتقاليد الموروثة عن عصور الظلام وخضوعا لرجال الدين ولبعض الزعماء السياسيين، خاصة زعماء الحزب الوطني، الذين اعتبروا حرية المرأة تقليدا للأوروبيين فى الوقت الذى كان فيه الإنجليز يحتلون مصر، وكانت مصر لا تزال تابعة للعثمانيين، ومن هنا ربط خصوم قاسم أمين بين دعوته والاحتلال الإنجليزى وربطوا فى المقابل بين معارضتهم لحرية المرأة ودفاعهم عن ارتباط مصر بالسلطنة العثمانية،

لكننا نرى فى النهاية أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن مصر اندفعت فى طريق النهضة، وتخلصت من تبعيتها للعثمانيين، وثارت على المحتلين الإنجليز، ونالت استقلالها الوطني، وحصلت على الدستور والبرلمان، وأسست لاقتصاد جديد ومجتمع جديد وثقافة جديدة، واعترفت للمرأة بحقها فى أن تتعلم وتعمل وتتحرر وتشارك فى النشاط العام لأن ما تربحه المرأة تربحه مصر وما تخسره نخسره جميعا.

غير أن النهضة المصرية التى حققت الكثير فى النصف الأول من القرن العشرين انتكست خلال العقود الستة الماضية التى لم نفقد فيها ما كنا نحلم بإنجازه فحسب، بل فقدنا فيها أيضا ما أنجزناه قبلها ومنه ما حققته المرأة من خطوات فى طريق الحرية ثم أرغمت على أن تتنازل عنه أو عن كثير منه وأن تتباهى بهذا التنازل وتحوله إلى إعلانات سوداء عن ردة شاملة انخرط فيها الرجال والنساء. ومن هنا نتحدث عن المرأة فى هذه الأيام كمدخل للحديث عن النهضة المغدورة التى حان الوقت أن نستأنف السير فى الطريق إليها.

>>>

نقول إن قضية المرأة هى قضية المصريين جميعا، وهذه حقيقة لا نحتاج فى إثباتها إلى دليل. فالمرأة هى أم المصريين وأختهم وابنتهم ورفيقة حياتهم. لكن هذه الحقيقة لم تكتف بأن تكون بديهية تثبت نفسها بنفسها، وإنما تجسدت فى المناقشات التى دارت حولها، وشارك فيها الرجال والنساء، المسلمون والمسيحيون، المشتغلون بعلوم الدين وعلوم الدنيا. وسوف أقدم لكم فيما يلى صورة من هذه المناقشات تكشف عن هذه الحقيقة المزدوجة: قضية المرأة هى قضية المصريين جميعا، وقضية المرأة هى قضية النهضة التى نريد فيها أن نخرج من نظم العصور الوسطى وتقاليدها العبودية، ونندفع فى طرق العقل والحرية. وسوف أبدأ هذا الحديث بكتاب مرقس فهمى «المرأة فى الشرق».

لماذا أبدأ بمرقس فهمي؟ لنرى أن قضية المرأة ليست قضية المسلمين وحدهم، وإنما هى قضية المصريين جميعا، وأن المسائل التى تشغل المسلمين فى شئونهم الدنيوية ومنها ما يتعلق بحقوق المرأة وبالدستور والديمقراطية والقانون وحقوق الإنسان تشغل المسيحيين فى الوقت ذاته، لأن دنيا هؤلاء هى دنيا أولئك. وتلك هى الوحدة الوطنية وهى النضال فى سبيل الاستقلال والحرية والتقدم، وهى الثورة التى جمعت بين سعد زغلول، ومكرم عبيد، ومصطفى النحاس، وسينوت حنا، وصفية زغلول زوجة سعد، وعايدة مرقس حنا زوجة مكرم.

وأنا لم أكن أعرف مرقس فهمى إلا بعد أن شرعت فى نشر هذه المقالات عن قضية المرأة وأخذت أبحث عما كتب حولها فدلنى الشاعر السماح عبد الله على ما كتبه مرقس فهمي، وقدم لى ملخصا له اعتمدت عليه فى هذه المقالة. ودلنى الفنان وجيه وهبة على ما كتبه طلعت حرب، الذى ناقش قاسم أمين فى كتابين اثنين، ثم اكتشفت بعد ذلك أن الكتب التى ألفت حول هذه القضية لا تقل عن مائة كتاب كانت لها أصداؤها فى معظم البلاد العربية والإسلامية حتى جزر المالديف فى أقصى الشرق!

أما مرقس فهمى فهو مناضل وطنى عريق ولد عام 1870 فى إحدى محافظات الصعيد، وانتظم فى مراحل الدراسة والتحق بمدرسة الحقوق فى القاهرة وتخرج عام 1891 وانخرط فى الحركة الوطنية وشارك فى ثورة 1919 وكان واحدا من الذين أسسوا نقابة المحامين وهى أول نقابة مهنية فى مصر، كما شارك فى الدعوة لتحرير المرأة وسبق قاسم أمين فى هذه الدعوة إذ أصدر كتابه «المرأة فى الشرق» عام 1894 قبل أن يصدر قاسم أمين كتابه الأول «تحرير المرأة» بخمس سنوات، وفيه يدعو للسفور لأن الحجاب يمنع المرأة من أن تتعلم وتشارك فى الحياة الوطنية وتختلط بغيرها من المواطنين. كما يدعو مرقس فهمى لتقييد الطلاق حماية للأسرة ومنع تعدد الزوجات، وأن يسوى بين المرأة والرجل فى الزواج من أصحاب الديانات الأخرى، لأن الزواج تتويج لعاطفة مشتركة لايمنعها اختلاف الدين.

ومن المؤكد أن هذه الآراء التى لا تزال تصدم الكثيرين إلى اليوم كانت صادمة أكثر قبل مائة وعشرين سنة والمرأة المصرية سجينة بيتها والرجل مطلق السراح حر فى الزواج والطلاق يجمع بين زوجتين وثلاث وأربع وبين زوجاته وجواريه اللائى كانت بيوت الأغنياء فى أنحاء البلاد لا تزال عامرة بهن، لأن تجارة الرقيق كانت لا تزال مشروعة فى مصر إلى أواخر القرن التاسع عشر. ثم إن الصدمة التى أثارتها هذه الآراء كانت عنيفة مضاعفة لأن صاحبها لم يكن مسلما.

غير أن مرقس فهمى لم يكن فى آرائه هذه مسيحيا وإنما كان مواطنا مصريا لا يفرق بين نضاله فى سبيل الاستقلال ونضاله فى سبيل تحرير المرأة. وقد رأينا أن ما نادى به مرقس فهمى قبل مائة وعشرين عاما هو ما نادى به الرئيس التونسى الباجى السبسى هذا العام.

وفى الأربعاء القادم ننظر فى كتابات الذين عارضوا قاسم أمين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف