الوطن
حسن ابو طالب
«الفيس بوك» يخلط الأوراق بين روسيا وأمريكا
ما زالت قضية التأثير الروسى على الانتخابات الرئاسية الأمريكية تفرض نفسها فى الداخل الأمريكى، والبحث الحالى، سواء من أجهزة الاستخبارات الأمريكية أو وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالى، يتعلق بالحصول على قرائن قوية تدعم الادعاء بالتورط الروسى الرسمى، وهو ما يراه بعض رجال الكونجرس وسياسيون كثيرون فى أقل الأحوال تشويهاً للديمقراطية الأمريكية، وفى أقصى الاستنتاجات بمثابة إعلان حرب يتطلب رداً مماثلاً. بل إن لجنة الاستخبارات الأمريكية فى الكونجرس اقترحت قانون استخبارات جديداً تحت مسمى قانون مكافحة التجسس تضمّن مادتين أثارتا جدلاً مهماً بين المتخصصين فى الأمر، وهما المادتان 501 و502، أولاهما تقترح تشكيل لجنة خاصة تضع تدابير فعالة لمواجهة الخطوات التى تقدم عليها روسيا الفيدرالية لغرض التأثير على الشعوب والحكومات، والثانية تفرض قيوداً صارمة على تحركات الدبلوماسيين الروس فى الولايات المتحدة، حيث لا يُسمح لهم بالتحرك أكثر من 25 ميلاً بعيداً عن مقار عملهم.

المادتان على هذا النحو تعنيان أن مجتمع الاستخبارات الأمريكية يريد تفويضاً قانونياً مفتوحاً للتعامل مع روسيا باعتبارها عدواً صريحاً، من أجل منع هذا العدو من التأثير على حركة الشعوب والمجتمعات فى العالم كله وليس فقط فى الولايات المتحدة. وهى فكرة تعكس القناعات الضمنية لمؤسسات الدولة الأمريكية بأنها تحارب من أجل الآخرين وليس فقط من أجل المصالح الأمريكية، وأنها تدافع عن حرية العالم مقابل من يريد أن يهيمن على هذا العالم، ومن ثم فلها الحق أن تصول وتجول هنا وهناك وفقاً لهذه القناعات وبدون أن يحاسبها أحد. وهى القناعات التى لا يختلف عليها جمهوريون أو ديمقراطيون، وتجسد نزعة الاستعلاء الأمريكى بامتياز على العالم كله وليس فقط روسيا الاتحادية. لقد مثّلت المقولات والتحليلات والاستنتاجات حول التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية ذريعة كبرى لتدعيم فكرة أن روسيا يجب أن تُعاقَب وتحاصَر وتقيَّد تحركاتها الدولية، وأنها مصدر تهديد دائم للأمن القومى الأمريكى، وهو جوهر ما كانت تدعو إليه المرشحة «كلينتون»، ويختلف جذرياً عن أفكار المرشح «ترامب» التى دعت إلى التعامل مع روسيا من منطلق عقد الصفقات وليس العداء السافر. أما البحث الجاد فى تقدير مدى تأثر الناخبين الأمريكيين بمثل هذه التدخلات إن حدثت، ومن ثم وضع الأمور فى نصابها من حيث تحوُّل اتجاهات الناخبين لتأييد المرشح ترامب بدلاً من المنافسة له كلينتون، فلم يكن فى حسابات هؤلاء الداعين إلى محاسبة روسيا حتى قبل التأكد من تدخلها وحجم هذا التدخل.

أحد الأسباب التى تجعل مؤسسات الدولة الأمريكية تهتم بمزاعم التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية، ليس فقط هزيمة كلينتون، بل لأن خبرة الأمريكيين فى التأثير على توجهات الرأى العام فى بلدان أخرى وإعادة بناء منظومات القيم لديها وتغيير هويتها القومية هى خبرة معروفة وتم استخدامها فى أكثر من حالة شهيرة كاليابان بعد الحرب العالمية الثانية وألمانيا وكوريا الجنوبية، من خلال دراسات سلوكية ازدهرت فى الخمسينات والستينات فى القرن الماضى وكانت تتمحور حول سبل السيطرة على حركة المجموعات الكبيرة من خلال الإعلام والتسريب الممنهج والبث السرى، والتضليل والتزوير، والتحريض، وتشكيل مجموعات العملاء وتمويلهم.

وفى ظل هذا الجدل أعلن موقع «فيس بوك» الشهير أنه أغلق مساحات إعلانات اشتراها روس للترويج إلى مناسبات مختلفة أثناء الانتخابات الأمريكية، فيما فسره البعض بأنه أحد سياقات التدخل الروسى المزعوم. والجدير بالملاحظة أن الشركة لم تحدد ما هى هذه المناسبات وهل بالفعل كانت ذات صلة بالانتخابات. مثل هذه الأسئلة وغيرها توضح أن بيان شركة الفيس بوك لا يقدم أدلة حاسمة. فعلى سبيل المثال لو اشترت شركة روسية تعمل فى مجال بيع التحف مساحة إعلان على الفيس بوك لتروج لبيع التحف الفنية فى إحدى الصالات الفنية بأمريكا فهل يُعتبر ذلك بمثابة تدخل فى توجهات الناخبين الأمريكيين؟ وقس على ذلك مساحات الإعلانات الشبيهة من هذا النوع الذى يروج لأمور عادية ولا علاقة لها بالسياسة أو بالانتخابات. ونستطيع هنا أن نلمح قضية أكبر وأخطر وهى الدور الذى باتت تلعبه وسائل الإعلام الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعى فى وضع الأولويات للأفراد والمجتمعات على السواء. لقد منحت تلك الوسائل مسارات للحوار وتبادل الآراء والتصورات غير الممكن السيطرة عليها من قبَل الحكومات مهما فعلت من تقييد تقنى. وفى الآن نفسه أصبحت تلك الوسائل تحت سيطرة ضمنية للشركات التى توفر تلك الخدمات. وكثير يعلمون أن أسرارهم وتحركاتهم وأفعالهم مفضوحة بشكل أو بآخر لدى تلك الشركات. وفى الآن نفسه هناك مجموعات القرصنة التى تسعى إلى ابتزاز المترددين على تلك المواقع واستغلال المعلومات التى توفرها تلك المواقع، وهناك أيضاً ما بات يُعرف بالكتائب الإلكترونية، التى تنتمى إلى قوى سياسية مشروعة أو غير مشروعة والتى تروج لأفكار معينة وتشوه كل من يخالف تلك الأفكار، وبعض من تلك الكتائب قد ينتمى إلى جهات رسمية فى الدولة والبعض الآخر ينتمى إلى قوى غير رسمية.

ومثل هذا التنوع فى القوى التى يمكنها أن توظف أدوات ما يُعرف بالإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعى التى تخترق العالم كله، يجعل مهمة إثبات المسئولية على جهة محددة وتدخُّل بذاته للتأثير على الرأى العام مسألة صعبة للغاية، مع اقتناعنا بأن بعض هذه التدخلات يمكن أن تؤثر على نسبة من الرأى العام وليس كل الرأى. ولو افترضنا أن بعض تلك الإعلانات التى أشار إليها «الفيس بوك» كانت ذات صلة بالحوار الحالى حول الانتخابات الأمريكية، فما الجريمة فى ذلك؟ فالعالم كله كان يتابع تلك الانتخابات والكثير من السياسيين عبر العالم والمحللين والناس البسيطة عبّروا عن آرائهم وتوجهاتهم بالنسبة للمرشح الذى يفضلون اختياره سواء عبر التغريدات أو إطلاق الآراء على تصريحات المرشحين أو الدخول فى نقاشات مفتوحة مع أناس غير محددين، فهل تتم محاسبة العالم على أنه عبّر عن رأيه فى شأن يؤثر على مصائر النظام الدولى كله؟ إن القول بأن بعض إعلانات أو مواقع للدردشة أثرت على توجهات الناخبين الأمريكيين يعنى فى الحقيقة نوعاً من الاعتراف بهشاشة المعايير التى يختار على أساسها الناخب الأمريكى رئيسه الجديد. وهذا أمر يصب فى الإساءة إلى الأمريكيين أنفسهم قبل غيرهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف