المصريون
طه خليفة
كرماء في وطنهم.. كرماء خارجه أيضاً
في مقال الأمس تحدثت عن جريمة السائح الإيطالي الذي قتل مواطنا مصريا في مدينة مرسى علم، ثم حصل على الإفراج، وتسلم جواز سفره، وقطع تذكرة، وعاد إلى بلاده، وهو ينعم الآن بدفء الحياة مع أسرته، بينما الفراق والألم والمرارة صاروا من نصيب عائلة المهندس الضحية التي كانت تنتظر تحقيق العدالة لتخفيف حرقة قلب مشتعل بالحزن.
ليست المرة الأولى التي يعود فيها أجنبي خرق القانون في مصر إلى بلاده دون أن يقوم هذا القانون بدوره، ويحاسبه، يدينه أو يبرأه، لأن حماة القانون يكون لهم رأي وتفكير آخر، هناك قضية أثارت ضجيجا وجدلا هائلا، هي قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني رقم 173 لسنة 2011، ولتنشيط الذاكرة فإنها بدأت في 27 يوليو 2011 خلال حكم المجلس العسكري بعد ثورة يناير، وقد أُغلق الشق المتعلق بالمتهمين الأجانب فيها بينما الشق المتعلق بالمتهمين المصريين لايزال مفتوحا، 17 من العاملين في منظمات غير حكومية أجنبية، بينهم 9 أمريكيون، غادروا مطار القاهرة في طائرة خاصة مطلع مارس 2012 بعد أن تظلموا من قرار منعهم من السفر، ورفعت المحكمة هذا القرار ودفعوا كفالات قدرها 32 مليون جنيه، لكن التهمة لاتزال تطارد النشطاء المصريين، وبعضهم صدرت بحقه قرارات منع من السفر والتحفظ على الأموال.
أمير الشعراء أحمد شوقي يقول في بيت ربما يلخص تلك الحالة:
أحرام على بلابله الدوح .. وحلال للطير من كل جنس.
أذكر هنا واقعتين تتعلقان بالتطبيق الصارم للقانون في دولة القانون دون النظر لكون المتهم مواطن أم أجنبي، ودون النظر لمكانته السياسية والشخصية، الأولى حصلت في شهر مايو 2011 في أمريكا حينما اتهمت عاملة فندق في نيويورك "دومنيك شتراوس كان" مدير صندوق النقد الدولي آنذاك بأنه حاول التحرش بها جنسيا، الرجل في منصب دولي كبير وهو شخصية مرموقة، لكن القضاء لا يتوقف عند كون المتهم رئيسا أم خفيرا، إنما يهتم فقط بأن لديه بلاغا يجب التحقيق فيه، وقد تم القبض عليه في المطار قبل مغادرته بلحظات، واحتجز أربعة أيام على ذمة البلاغ، ثم أُفرج عنه بكفالة قدرها 6 ملايين دولار مع منعه من مغادرة أمريكا ويبقى تحت الإقامة الجبرية، وفُرضت على الشقة التي يقيم فيها حراسة مسلَّحة، وأُرغم على ارتداء إسوار إلكتروني لمراقبة تحركاته طوال الوقت، تقريبا لا تحدث كل هذه الإجراءات الأمنية المشددة دفعة واحدة مع مجرمين أمريكيين، وقد كلفه ذلك منصبه فاستقال من الصندوق في 18 مايو من العام نفسه.
ما حدث في قضية "كان" تأكيد لما هو معروف عند أمريكا أن العدالة لابد أن تأخذ مجراها مهما كانت مكانة المتهم، ولذلك تزداد دولة القانون والمؤسسات رسوخا، وتتعمق ثقة المواطنين في القانون والعدالة والسلطات في بلدهم، فلا يخشى أي مواطن من ضياع حقوقه، أو التعرض للظلم لذلك ينام مطمئنا.
الواقعة الثانية تتعلق بالمهندس ممدوح حمزة، وهو سياسي مصري معروف بدوره في ثورة يناير، ونشاطه العام بعدها، في عام 2004 بعد وصوله إلى لندن تم القبض عليه بتهمة زائفة وقيل إنها التحريض على اغتيال شخصيات مصرية مسؤولة وكبيرة في نظام مبارك، واحتجز في السجن لفترة، ولمّا تم الإفراج عنه بكفالة فُرضت عليه إقامة جبرية في بريطانيا، وعدم مغادرتها حتى تنتهي القضية، وظل هناك فعلا حتى حصل على البراءة.
ماذا يكون السائح الإيطالي القاتل أمام مدير صندوق النقد الدولي، وأمام مهندس مصري كبير ومعروف كان مدعوا من ملكة بريطانيا لاحتفال كبير؟، وماذا يكون نشطاء حقوق الإنسان الأمريكيين والأوروبيين - إذا كانوا حسب صحيفة الادعاء في القضية ينتهكون قوانين الدولة التي يمارسون عملهم فيها - حتى يُسمح للإيطالي ولهم بالمغادرة قبل المحاكمة؟.
لو كان الراحل طارق الحناوي، هو من قتل مواطنا إيطاليا في روما أو نابولي أو فينسيا أو ميلانو هل كان سيتم السماح له بالمغادرة قبل المحاكمة؟، ولو كان نشطاء مصريون خالفوا قوانين الدولة الأمريكية في العمل الأهلي هل كانت وزارة العدل ستوافق على تسفيرهم بعد دفع كفالة للخلاص من ضغوط القاهرة عليها كما فعل المجلس العسكري في 2012، وكما حصل اليوم في قضية الإيطالي؟.
القانون يُوضع ليُطبق على كامل تراب الدولة، وعلى المقيمين فيها دون النظر لكون هذا مواطن يُحاسب حتى النهاية، وهذا أجنبي قد يُسمح له بالمغادرة فلا تكتمل دورة العدالة عليه، وهناك مخرج يوفره الدستور إذا كانت هناك ضرورة أو رغبة في الإفراج عن محكوم مدان أجنبي أو مواطن، وهو العفو الرئاسي.
مصر يجب أن تكون دولة قانون بالفعل وليس بالشعارات، وقيمة الانتماء الوطني السامية لا تترسخ مالم يشعر المواطنون أنهم كرماء في وطنهم، كرماء ترعاهم دولتهم خارج وطنهم أيضا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف