بوابة الشروق
بسمة عبد العزيز
الغراب
كتابٌ خارج الإطار المعتاد لمن لا يزال لديه شغفٌ بقراءة لا تتعلق بالسياسة وهمومها، ولا ترتبط بعِلم يتطرَق إلى أوضاع البشر بوجه عام. كتابٌ عن الطيور المصرية، بدءا من العصافير التى نطلق اسمها تجاوزا على غالبية ما طار وصغر حجمُه ووصولا إلى النعام.
***

اخترته من بين عشرات الكتب المرصوصة على الأرفف، داخل معرض صغير للهيئة العامة للكتاب. الكتاب ضخم الحجم كبير القطع، كأنه مجلد من المجلدات القديمة وغلافه بسيط جدا يشبه كتب المدارس فى المراحل الأولى ويشعر القارئ بالألفة؛ صورتان لطائرين وخلفية باللون الأبيض والأزرق.
صاحبه محمد محمد عنانى الذى تقول المقدمة المسطورة بيد ابنه إنه قضى عشرين عاما فى إعداد الكتاب، وشغل نفسه بحياة الطيور وأحوالها بل وعاش بينها، لكنه توفى قبل أن يخرج الكتاب إلى النور أوائل التسعينيات، وقد احتفظ الابن بالمخطوطة كما هى، دون تدخل بحذف أو تعديل.
***
فى الكتاب صور كثيرة ومعلومات عن الطيور الموجودة على الأرض بوجه عام وعن تلك التى تُشاهَد فى مصر بوجه خاص؛ سواء كانت مُقيمة أو مُهاجِرة. عندنا أنواع عدة من طائر الغراب الذى ينتشر فى أنحاء المَعمورة، لكنه يُفضِل المناطق مُعتدلة الحرارة، ويتميز فى المُجمَل بأنه من «الأوابد»، أى مِن الطيور التى لا تترك مَقامها وتغادر فى رحلات مَوسمية. هناك الغراب النوحى ناحية السلوم، والغراب أسمر الرقبة فى واحات مصر الغربية، والغراب «الأورق» وهو ذاك الذى نشاهده فى كل مكان؛ إذ ينتشر فى المدن والقرى على حد سواء، يصادفه الناس فى الساحات حيث يحط ويحجل ويتكاسل فى الابتعاد كأنه لا يخشى شيئا.
***
بعض الأشخاص يكرهون الغراب ويتشاءمون لرؤيته بينما بعض الشعوب تتفاءل به. تقول الأمثال العربية التى لا ترى فى الغراب خيرا: «إذا كان الغرابُ دليلَ قوم فلا رجعوا ولا رجع الغرابُ». سبب التشاؤم ليس مُحددا بوضوح وربما يكمُن فى ارتباط هذا الطائر تحديدا بقصة قتل ودفن قابيل لأخيه. على كلٍّ، ثمة قصص وأساطير كثيرة حول الغراب لدى الشعوب الأوروبية، أغلبها مَبعث تقدير وتفاؤل واحترام، أما نحن فتشاؤمنا يبدو مُمتدا مِن طائر إلى آخر؛ مِن الغراب إلى البومة، ولا أدل على هذا مِن الإعلان الذى طلَ علينا مُؤخرا بمناسبة تصفيات كأس العالم، فقد قرر المُعلِنون أن سبب فشلنا المُتواصل فى التأهُل هو «النحس»، وبالتالى جاءت العبارة المُمَيِزة للإعلان لتقول: «٩٠ مليون كف معانا فى وش البومة اللى نحسانا»، على الرغم من/ أن البومة بريئة مِن خيبتنا ولا شك.
***
أكثر ما جذبنى مِن معلومات حول الغراب هو وصفه بأنه طائرٌ لِصٌ، مُغرَم بالسرقات الصغيرة. يقتنص بمنقاره ما يرى؛ فى الطريق، على الأرض، فوق عربة أو حتى مِنضدة. يُمسك به ويصطحبه معه إلى عشه، غير عابئ بمدى فائدته له. يقول المؤلف عن ميله هذا إنه: «إشباع لظمأ الطبع» إذ لا يهتم الغراب إن كان ما استولى عليه قابلا للأكل، أو ضروريا لبناء العش، أو صالحا لإطعام الأفراخ الصغيرة وتدفئتها. لا يهتم إلا لفكرة الاستحواذ على ما يجد، لذلك قد يحوى عشُه علبَ صفيح خاوية، صابون، قطعَ نقود، ملاعقَ وحُلى وجوارب أو حتى فردةَ حذاء رضيع أو قُبعة.
***
مُتعة الغراب توازيها مُتعة مُماثِلة لدى بنى البشر؛ بعضُ الناس يحبون جَمع ما تقع عليه أعينُهم بغض النظر عن قيمته، وبغض النظر أيضا عن فكرة السرقة ذاتها، فالشىء الذى يُقْتَنَى قد لا يكون مَسروقا، الغُراب نفسه حين يقرر حَمل شىء ما جذب نظره لا يفكر أغلب الظن إن كان له مالك آخر. لا تكون السرقة واضحة إلا حين يسطو على عش طائر غافل فيأخذ بيضه ويغادر.
***
إذا كانت المتعة واحدة فالمسلك أيضا قد يكون واحدا. نعرف مَن يحبون جمعَ الأشياء كلها فى أيديهم، بغض النظر عن فائدتها أو ضررها لهم، بل دون النظر إلى خطورة فعلهم. نعرف مَن يطمعون فى ما بأيدى آخرين حتى ولو كان لديهم ما هو أفضل وأقيم وأعلى مكانة وما هو أجدر بالحفاظ عليه. نعرف مَن يحاولون السطو على أعشاشٍ ليست لهم، ومَن يدسون أيديهم ومناقيرهم كى ينشلوا بها نصيبا ليس مُخصَصا لهم. فى مجال المال والأعمال هناك من يجمع المقاولات والصفقات والاتفاقات ويستحوذ عليها، ولو فى غير صميم مجاله واختصاصاته، يتسبَب فى ضرر لا مَنفعة، لكنه لا ينفك يضيف كل صبيحة المزيد. هى شهوة الحصول على ما تأتى امتلاكه وما أمكنت حيازته، مادام الأمر مُتاحا والصمت عنوانا.
***
لا أظن أن للغراب مِن رشد وعقل ما يُمَكِنه مِن إدراك وتمييز أفعاله، أما البشر فلهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف