الأهرام
عبد الرحمن سعد
العمل السري الصالح
يشعر الإنسان بسعادة عندما يثني الناس عليه لكنه يشعر بسعادة أشدّ عندما يستخفي بعبادته، بعيدا عن أعين الناس، متجنبا الرياء والسمعة، ومخلصا نيته لربه؛ ذلك أن "عبادة السر"، أو "طاعة الخفاء"، تجلب الرزق، وتوجب النصر، ولأن ثمارها عظيمة فهي تقتضي إحياءها في النفوس, كي تمد ظلالها الوارفة على المجتمع.
قال تعالى: "يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ". (الطارق: 9). هنا أبانت الآية أن الأعمال نتائج للسرائر.

وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".(رواه مسلم).

وقال أيضا: "مَنِ استطاعَ منكم أنْ يكونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عمَلٍ صالِحٍ فلْيَفْعَلْ". (صححه الألباني في "صحيح الجامع"). و"الخَبْءٌ": المخبوء عن الناس.

ومن ثمار هذا العمل الصالح المخبوء: تعظيم أمر الله، وأن يكون العمل له وحده، وتربية النفس على الإخلاص، واستواء مدح الناس وذمهم؛ وبلوغ مرتبة الإحسان، التي وصفها الرسول، صلى الله عليه وسلم، بأنها: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".(متفق عليه).

"عبادة السر" أيضا من أكبر أسباب ضبط الشهوة، والظفر بلذة الطاعة، ونور الوجه، وبصيرة القلب، وانشراح الصدر، وسداد القول والعمل. قال ابن القَيم: "الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات".

وأردف ابن الجَوزي: "من أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه. فالله الله في إصلاح السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر".

أما محمد بن واسع فقال: "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح آخرته أصلح الله دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس".

في هذا الصدد.. لنا أن نقارن أحوالنا بالسلف الصالح، الذين كانوا يحثون الأمة على إخفاء العمل الصالح، ويتخذون ذلك دَيدَنا لهم.

قال الذهبي: "كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح؛ لا تعلم به زوجته، ولا غيرها".

وقال ابن مسعود: "كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، تُعرفون في السماء، وتَخفَون على أهل الأرض".

أما بشر بن الحارث فقال: "لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس".

ولم يكتف السلف الصالح بالتنظير، بل كانوا قدوات، على صعيد العمل. فقال الحسن: "إن كان الرّجل لقد جمع القرآن وما يشعر به النّاس، وإن كان الرّجل لقد فقه الكثير وما يشعر به النّاس، وإن كان الرّجل ليصلّي الصّلاة الطّويلة في بيته، وعنده الزَّوْر، وما يشعرون به".

وأضاف: "أدركنا أقواما؛ ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السّرّ فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدّعاء، وما يُسمع لهم صوت.. إن كان إلّا همسا بينهم، وبين ربّهم، ذلك أنّ اللّه تعالى قال: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً"، وذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: "إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا". (مريم: 3).

وعن يوسف بن عطية عن محمد بن واسع قال: "أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة.. قد بلَّ ما تحت خده من دموعه, لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده، ولا يشعر به الذي إلى جنبه"!

وكانوا يختلون بربهم، بعيدا عن أعين الناس، فقال مغيرة: "كان لشريح (القاضي) بيت يخلو فيه يوم الجمعة, لا يدري الناسُ ما يصنع فيه".

أما زين العابدين فكان يَعوْل عشرات البيوت في المدينة، ويوصل بنفسه الصدقة إليهم ليلاً، فلم يُعرف ذلك عنه؛ إلا بعد موته!

لقد ذاقو حلاوة "طاعة الخلوة"، وأدركوا ثمرة "عبادة السر"، فجاء عملهم على هذا المنوال، التماسا لحسنَ الختام، ودخولَ الجنة، كما رأينا في قصة بلال.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِي اللَّه عَنْه، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: "يَا بِلَالُ: حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ". قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ". (رواه البخاري).

من ثمرات ذلك أيضا أن الله، تعالى، ينجي العبد من كربه ببركة عمله المخبوء. قال سبحانه عن "يُونُسَ" عليه السلام: "فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ".(الصافات:143ـ144).

وتمكَّن الثلاثة الذين انطبقت عليهم صخرة الغار؛ أن يخرجوا منه سالمين، بعد أن بحث كل منهم عن "خبيئة صالحة"، توسَّل بها بين يدي الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف