الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
رسالة منصور فهمى
هذه مقالة ثالثة أواصل فيها مناقشة القضية المهمة التى أثارها الرئيس التونسى الباجى السبسى فى خطابه الذى ألقاه فى الاحتفال بيوم المرأة التونسية وطالب فيه بمساواة المرأة بالرجل فى الميراث وفى اختيار شريك الحياة.

وكنت قد وعدت القارئ العزيز فى نهاية المقالة السابقة بالحديث عن موقف الأزهر من الدعوة لتحرير المرأة منذ انطلقت هذه الدعوة فى أواخر القرن التاسع عشر إلى الآن لنفهم موقفه من القضية التى أثارها الرئيس التونسي، لكنى سأؤجل الحديث عن موقف الأزهر إلى أسبوع مقبل لأتحدث هذا الأسبوع عن مؤلفات صدرت منذ أكثر من قرن حول هذه القضية، ومع هذا تكاد تكون مجهولة من معظمنا. هذه المؤلفات لا أتحدث عنها كمؤرخ أفكار، بل أقدمها دليلا على أن تحرير المرأة كان فى نهضتنا الحديثة قضية محورية شغلت كل المصريين رجالا ونساء على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم الفكرية والدينية والاجتماعية، لأن المرأة المصرية كانت رمزا لمصر كلها، استعباد المرأة دليل على أننا لا نزال نعيش فى نظم الماضى وتقاليده العبودية التى تتمثل أشد ما تتمثل فى المرأة المستعبدة، وحرية المرأة دليل على أننا نهضنا وتحررنا من الماضى ودخلنا فى عصر جديد.

ونحن نرى أن الحديث عن المرأة يستدعى الحديث فى الدين والسياسة والتاريخ والمجتمع والثقافة والتربية والأخلاق والاقتصاد. هذا الارتباط العضوى بين حرية المرأة والحرية فى كل أشكالها وارتباطاتها بغيرها هو الذى يجعل قضية المرأة قضية محورية تهمنا جميعا، ليس فقط باعتبارها حركة نؤرخ لها، ولكن باعتبارها تحديا دائما وسؤالا مطروحا علينا بعد أن قمنا بثورتنا وأفقنا من غفلتنا أن نلم بأطرافها ونتذكر أيامها ونستعيد وعينا بها لنعرف أننا قفزنا فيها قفزة واسعة من عصور الظلام إلى عصور النور، ولنعرف من جهة أخرى حين نقارن بين ما حققناه فى أيام النهضة وما صرنا إليه الآن أننا لم نواصل السير فى الطريق ولم نحافظ حتى على المكاسب التى حققناها فيه وانتقلنا بها من حال إلى حال، بل فقدنا الكثير ورجعنا القهقرى إلى ما كنا عليه فى أيام الترك والمماليك. وعلينا إذن بعد أن نعى هذا الوضع المؤسف أن نستأنف النهوض وننخرط فى السباق من جديد.

ولكى أوضح للقراء الأعزاء هذه الحقائق وأذكرهم بالجهود التى بذلت فى الدعوة للنهوض وبالتضحيات التى قدمها أصحابها وهم يؤدون رسالتهم نحو المرأة ونحو الوطن أتحدث عن بعض المؤلفات التى تكاد تكون مجهولة كما قلت رغم أهميتها ورغم أنها صدرت منذ أكثر من قرن.

هذه المؤلفات انطلق فيها أصحابها وهم عدد من نجوم الفكر والسياسة والاقتصاد من وعى كامل بما كنا عليه من تخلف مزمن فى كل المجالات، ومن ثم بحاجتنا الملحة إلى نهضة شاملة أصبحت بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت نواجهها جميعا بكل طاقاتنا رجالا ونساء فى كل المجالات التى تعرض لها المؤلفون فربطوا بين حرية المرأة والديمقراطية، وبين تجديد الخطاب الدينى وحرية التفكير والتعبير، وبين الاحتكام للعقل وتحصيل العلم.

وسوف أبدأ بالرسالة الجامعية التى بحث فيها الدكتور منصور فهمى أحوال المرأة فى الإسلام وحصل بها على الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة السوربون، لكنها اتهمت فى مصر بالإساءة للإسلام، وعوقب منصور فهمى وفصل من الجامعة الأهلية التى بعثت به إلى فرنسا، وصودرت رسالته فلم تنشر لا باللغة الفرنسية التى كتبت بها ولا بترجمة عربية حتى بادر بعض المثقفين العرب المهاجرين فى أوروبا فأزاحوا عنها سنوات الظلم والمصادرة والنسيان ونشروها مشكورين فى ترجمة عربية قامت بها رفيدة مقدادى وصدرت عن منشورات الجمل فى ألمانيا. وهذا ما تكرر بعد سنوات مع طه حسين حين نشر كتابه «فى الشعر الجاهلي»، وبعد ذلك مع خالد محمد خالد، ثم مع نجيب محفوظ، ونصر حامد أبو زيد، وإسلام بحيري. لكننا نرى أن الحرية هى التى تنتصر فى النهاية، وأن أعداءها هم الذين يعودون بالخزى ويبوءون بالخسران المبين. فقد انتصر منصور فهمى ونشرت رسالته، وانتصر طه حسين ونشر كتابه، وانتصر نجيب محفوظ وحصل على أرفع جائزة فى العالم لأنه لا يصح إلا الصحيح!

ما الذى يقوله منصور فهمى فى رسالته؟

يقول إن أحوال المرأة فى الإسلام ليست منفصلة عن أحوال غيرها، وإنما هى ثمرة للتداخلات والتفاعلات التى تحدث بالضرورة بين الأوضاع والأفكار والظواهر الاجتماعية المختلفة. فإذا كانت المرأة فى المجتمعات الإسلامية معزولة متخلفة فتخلفها ليس نتيجة لقصور طبيعى فى المرأة ولا لسيطرة الرجال على المجتمع فحسب، ولا للشرائع الدينية وحدها، ولكنه نتيجة لأوضاع كثيرة فى ميادين مختلفة نتجت عن أسباب عديدة وتراكمات متواصلة بعضها جديد وبعضها قديم. ونحن نتتبع أسباب العزلة التى كانت مفروضة على المرأة المصرية إلى عهد قريب ولا تزال لها آثار باقية يرمز لها الحجاب والنقاب اللذان استعادا سلطانهما علaى الوجوه والعقول ـ وجوه النساء وعقول الرجال ـ التى سيطرت عليها جماعات الإسلام السياسى أقول إننا نتتبع أسباب هذه العزلة، فنراها فى الماضى كما نراها فى الحاضر. فى الوضع الراهن للمرأة وفى وضعها القديم فى الجزيرة العربية فى الجاهلية حين كانت المرأة مهددة دائما بأن تكون غنيمة يستولى عليها الرجال الذين لا يستطيعون أن يعيشوا إلا بأن يسطو بعضهم على بعض ليضع الغالب يده على كل ما يملكه المغلوب الذى يستسلم أو يموت تاركا لخصمه الماء والمرعى والقطيع والنساء.

ولا شك فى أن هذا الوضع تغير إلى حد ما بعد الإسلام الذى انتشر فى مجتمعات مستقرة تمتعت فيها المرأة ببعض الحقوق. لكن العزلة المفروضة على المرأة استمرت فى هذه المجتمعات واستندت بعد الإسلام للنصوص الدينية التى أصبح بها الاحتجاب حكما بالسجن المؤبد وواجبا مقدسا لا تستطيع المرأة إلا أن تذعن له وتؤديه.

فإذا أردنا اليوم للمرأة أن تتحرر، فعلينا أن نفهم هذه الأسباب وهذه الأوضاع التى أدت إلى استعبادها لنعيد النظر فيها ونتخلص مما نجده سلبيا يقيد حركتنا ويحكم بالقهر والتخلف علينا جميعا وليس على المرأة وحدها.

وفى الأسبوع القادم نتحدث عن مؤلفات أخرى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف