الوطن
أحمد رفعت
زهايمر أحمد عبدالمعطى حجازى!
ليس لأنه من كتب ذات يوم فى رثاء جمال عبدالناصر قصيدة كانت عنواناً لأحد أشهر دواوينه وهى «مرثية العمر الجميل» حين قال:

«أشد صاحبتى ونرحل فى زحام الناس

لا ندرى غداً ماذا يكون

وكيف تشرق شمسه فينا ولست على المدينة!

لا لم يمت! وخرجنا

نجوب ليل المدينة

ندعوك فاخرج إلينا

ورد ما يزعمونه

إن كنت عطشان.. كنا

إليك ريحاً ونهراً

أو كنت جوعان.. كنا

خبزاً وملحاً وتمراً

أو كنت عريان.. كنا

ريشاً.. وكنا جناحاً

أو فى غيابات سجن

كنا مدى وسراحاً

أو كنت مستنصراً

كنا السيف والأنصارا

أو تائهاً فى الصحارى

كنا القرى والدارا»

وليس لأنه من قال أيضاً:

«لكن أضواء المصابيح تسللت من خلف قاهرة المعز

ولم تلح للساهرين!

ومشت رياح الأرض.. أوراق الجرائد فيك

بالنبأ الحزين!

فإذن هو النبأ اليقين!

واناصراه!

مالت رؤوس الناس فوق صدورهم

وتقبلوا فيك العزاء

وأجهشت كل المدينة بالبكاء!»

وليس لأنه كتب وأبدع ونشر ديوانين وهو دون الخامسة والعشرين، وكانت ثورة يوليو قد بدأت نهضتها الثقافية ولكن لسبب بسيط آخر.. فهو إن سألناه عن أعظم وزراء الثقافة فى مصر؟ ربما أجاب وعلى الفور إنه «ثروت عكاشة»، أبوالنهضة الثقافية المصرية، ووصفه أحمد عبدالمعطى حجازى صراحة بأنه «زهرة ثورة يوليو، وآخر الفراعنة العظام الذى رفض وبشدة بيع معابد النوبة بعدما اجتاحها طوفان السد العالى معطياً درساً للسفير الأمريكى آنذاك بأن ثقافة مصر وآثارها لا تباع»، ولكنه ينسى فجأة فى أى عصر كان ثروت عكاشة.. ولماذا يصفه الأدباء والشعراء والمثقفون بل ووزراء ثقافة سابقون مثل الدكتور جابر عصفور بأنه «أفضل وزير ثقافة عرفته مصر»، ليس لأن «عكاشة» هو من أشرف عام 63 على نقل معابد رمسيس الثانى إلى أبوسمبل، وإقامة مشروع الصوت والضوء لآثارنا كلها فى الجيزة والأقصر وأبوسمبل، واستضاف الباحثين والفنانين والأدباء بمركب فى النيل من القاهرة إلى أسوان والإقامة لأسابيع لمتابعة عملية بناء السد العالى وتسجيل معالم النوبة ومختلف فنونها حتى الفلكلورى منها قبل أن تغرق بفعل غمرها بمياه بحيرة السد، وليس لأنه من أسس أكاديمية الفنون بمختلف معاهدها المعروفة مثل الفنون المسرحية.. الباليه.. السينما.. الكونسرفتوار.. أوركسترا القاهرة السيمفونى.. الموسيقى العربية.. المسرح القومى.. الفرقة القومية للفنون الشعبية.. مركز الفنون الشعبية؛ فرقة المسرح الحديث ومسرح الطليعة ومسرح العرائس بالعتبة، ورحل وقد وضع حجر الأثاث لمدينة الفنون بالهرم وقاعة سيد درويش ونايلة خاتون وبيت السنارى.. ومسرح الجيب للأعمال التجريبية، والأهم على الإطلاق فرق الأقاليم المسرحية وقصور الثقافة.. بيوت الثقافة وأندية الأدب، ولا لأنه من قام بتسجيل التراث الشعبى من الفنون والعادات والتقاليد فى مختلف محافظات مصر وأرسل المتخصصين فى التراث إلى دول العالم، خصوصاً أوروبا، للتخصص فى هذا المجال، وكذلك استضافة الفنانين العالميين وعرض أعمالهم هنا فى مصر، ولا لأنه من أقر أن تقدم الدولة جوائز فى الآداب والفنون وأطلق متاحف الحضارة ومحمود مختار ومحمد محمود خليل والقبة السماوية بالجزيرة وقاعات الفنون التشكيلية وأصدر مجلات شاملة للإبداع مثل المجلة، والنوعى منها مثل الفنون الشعبية والمسرح والفكر المعاصر، فضلاً عن سلاسل النشر للشبان والمبدعين الناشئين حتى لا يكونوا تحت رحمة البيروقراطية وروتين الوظيفة، كذلك إطلاق منح تفرغ المبدعين والفنانين والأدباء وصناديق الرعاية لهم وإقامة متحف الفن الحديث والمؤسسات الثقافية الفنية المتخصصة كالمسافر خانة والحرف التقليدية بوكالة الغورى وأعمال قصر المانسترلى بالمنيل والنسجيات بحلوان، والخزف بالفسطاط ومراسم الفنانين بوكالة الغورى والجداريات الرائعة بأشكالها البديعة حتى فى مداخل محطات السكك الحديدية بكل محافظات مصر.. وإنما لكل ما سبق وهو قليل من كثير أنجزه ثروت عكاشة فى العصر الذى يهاجمه أحمد عبدالمعطى حجازى ويقول إن التدهور بدأ فيه! ويستخدم المصطلح المشبوه «منذ 60 عاماً»، أى منذ إنقاذ ضباط الجيش العظيم لوطنهم وشعبهم فى ثورة يوليو المجيدة، وللأسف يقول كل ذلك والمذيع لم يسأله عن كل ذلك!! ولم يسأله عن الجهل والفقر والمرض قبل الثورة ولا مشروع محاربة الحفاء، وهل كان الشعب موجوداً فى أى مشروع قبل الثورة ليكون موجوداً فى الإبداع والتنوير؟ وهل كانت هناك وزارة للثقافة قبل الثورة؟ بل هل كانت هناك ثقافة أصلاً؟!

ما سبق ليس مفاجأة، فلم تشهد مصر نفوذاً ناعماً فى محيطها والعالم قدر ما شهدته فى الخمسينات والستينات بما فى ذلك طبعاً السينما والأغنية، إنما المفاجأة ما ضاع من ذاكرة «حجازى» وسجله ثروت عكاشة بنفسه حين روى قصة استدعائه من روما لتولى الوزارة. وكيف رفض وكيف حاور جمال عبدالناصر لأربع ساعات متصلة يمدح فيها صبر «عبدالناصر» ولطفه معه إلى حد الخجل، ورغم أن الرواية طويلة لكن نكتفى بما قاله «عكاشة» حرفياً حين قال له «عبدالناصر» بعد جدال طويل: «أصارحك بأننى لم أدعك لشغل وظيفة شرفية بل إننى أعرف أنك ستحمل عبئاً لا يجرؤ على التصدى لحمله إلا قلة من الذين حملوا فى قلوبهم وهج الثورة حتى أشعلوها وأنت تعرف أن مصر الآن كالحقل البكر وعلينا أن نعزق تربتها ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذوراً جديدة لتنبت لنا أجيالاً تؤمن بحقها فى الحياة والحرية والمساواة، فهذا هو الغناء وهذا هو العمل الجاد، على نحو ما ذكر «فرجيل» فى «الإلياذة»، وإننى اليوم أدعوك أن تقبل على هذا العناء وذاك العمل الجاد وأن تشمر عن ساعد الجد وتشاركنى فى عزق الأرض القاحلة وإخصابها، إن مهمتك هى تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصرى، وأعترف أن هذه أشق المهام وأصعبها، وأن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام فى بناء الإنسان نفسه»، وهكذا ورغم اعترافنا بكفاءة ثروت عكاشة ومواهبه وهمته وبصماته كلها إلا أنه هو نفسه يعترف أن خطة الوزارة ورؤيتها ومنهجها كان بتكليف رئاسى مباشر ومحدد ولم تكن زرعاً منفصلاً فى حقل مجاور!!

لكن كل ذلك ذهب فجأة من ذاكرة شاعر كبير.. تجاوز الثمانين.. حتى إنه يردد كلام «الفيس بوك» عن أن بريطانيا كانت دائنة لمصر، وأمامه مذيع تركه يتكلم ولم يقل له إنها أموال دعم بريطانيا فى الحرب العالمية، وإنهم لم يسددوها، وهى دليل عار وليس العكس، وإنها استردت عنوة بعد الثورة بالتأميم، وإن هذا الكلام يمثل طعناً فى الجمهورية المصرية ذاتها وليس فى زعيم بعينه!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف