الأهرام
محمد سلماوى
هل انهزم الحلم الفلسطيني؟
ما الذى حدث للقضية الفلسطينية؟ تلك القضية التى شغلت بال العرب وضميرهم طوال سبعة عقود كاملة منذ أقيمت دولة اسرائيل على أرض فلسطين التى طرد سكانها وشردوا وأقيمت لهم المذابح فى دير ياسين ويافا وسعسع واللد وغيرها؟ هل انتهت القضية وانشغل العرب بقضية أخرى بعد أن يئسوا من حلها؟ لقد نشرت مجلة «نيوزويك» الأمريكية فى عددها الأخير موضوعا كبيرا وضعته على الغلاف يقول إن إسرائيل انتصرت أخيرا فى حربها مع الفلسطينيين، وأنها نجحت فى هزيمة الحلم الفلسطيني، فهل هذا صحيح؟ هل احتلال إسرائيل للأراضى العربية يعنى أنها انتصرت حقا؟ وهل انقضاء نصف قرن على احتلالها للضفة الغربية والقدس التى نص قرار التقسيم على تدويلها يعنى أن الحلم الفلسطينى قد انهزم؟

لاشك أن الاهتمام العربى بالقضية الفلسطينية قد تراجع كثيرا منذ اندلعت الثورات العربية عام 2011 فى تونس ومصر وليبيا، وسادت الفوضى فى كل من سوريا والعراق واليمن والصومال وانقسم السودان، فقد انشغلت الشعوب العربية بهمومها الداخلية التى أصبحت تهدد قوت أبنائها اليومي، فانتهزت إسرائيل هذا الوضع لتزيد من بناء المستوطنات اليهودية على الأراضى العربية المحتلة بالمخالفة للأحكام والقوانين الدولية، وأسرعت بعمليات تهويد القدس العربية التى احتلتها من الأردن عام 1967، كما زادت من حصار غزة الذى دخل الآن عامه العاشر وأحكمت الخناق حول سكان القطاع الذين يبلغ عددهم 2 مليون نسمة.

على أن المجلة الأمريكية لم تتطرق للاهتمام العربى بالقضية، وانما ركزت على ما سمته الانهزام الفلسطيني، فتحدثت عن الانشقاق على مستوى القيادة ما بين السلطة الفلسطينية (فتح) التى تحكم الضفة الغربية ومنظمة حماس الاسلامية التى تحكم غزة، وهو الانشقاق الذى حول الصراع الإسرائيلى الفلسطينى - على حد قول المجلة - الى صراع فلسطينى فلسطيني، فهل هذا صحيح أيضا؟ هل وجود صراع سياسى بين جناحين فلسطينيين يعنى أن صراع الوجود مع الاحتلال العسكرى الإسرائيلى قد انتهي؟

من الغريب أن انشغال العرب الحالى عن القضية الفلسطينية يأتى فى الوقت الذى بدأ العالم يتنبه لهذه القضية المزمنة التى اهملت عقودا طويلة، وأصبح الآن فى الغرب الموالى لإسرائيل رأى عام معارض لسياسات حكومته فى الشرق الأوسط، حتى داخل الدول الحليفة لإسرائيل مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، لقد ساهمت وسائل الاتصال الاجتماعى فى تحرير الرأى العام فى مثل هذه الدول من سيطرة الإعلام التقليدى الذى يتمتع فيه اللوبى اليهودى بنفوذ كبير، وأصبح الرأى العام يتابع ما يحدث فى الأراضى العربية المحتلة ويشاهد بنفسه العنف والغطرسة التى تمارسها قوات الاحتلال، والعنصرية والتمييز العنصرى الذى تنتهجه الدولة تجاه السكان العرب، وبعد أن كانت المستوطنات على سبيل المثال تصور على أنها توطين للاجئين اليهود الذين لا مأوى لهم أصبح الرأى العام فى الغرب يدرك عدم شرعية إقامة هذه المستوطنات على أراض فلسطينية محتلة، ويتابع العنف والارهاب الذى يمارسه المستوطنون ضد سكان هذه الأراضى تحت حماية دولة الاحتلال، وقد وصل وعى الرأى العام الغربى إلى أن أطلق لأول مرة دعوة لمقاطعة المنتجات التى يتم تصديرها الى الغرب من هذه المستوطنات، ونظرا لانتشار تلك الدعوة فى الآونة الأخيرة فقد تقدم البعض الى الكونجرس الأمريكى بمشروع قانون جديد يجرم مقاطعة اسرائيل من جانب الأفراد والمؤسسات التجارية، ويصل بالعقوبة الى حد الحبس لمدة عشرين عاما، وبالغرامة الى حد مليون دولار أمريكي، وقد أدان الاتحاد الأمريكى للحقوق المدنية هذا المشروع، مؤكدا أنه يتعارض مع التعديل الأول للدستور الأمريكى الذى ينص على حرية الرأي، ومع ذلك فإن مشروع القانون هذا ليس بجديد، فسياسة المقاطعة متبعة فى الولايات المتحدة على المستوى الرسمى والفردى أيضا، وقامت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتطبيقها على مدى سنوات ضد بعض الدول مثل كوبا، لكن هذا القانون الأخير يأتى كرد فعل لتصاعد نسبة من أصبحوا يؤيدون الحق الفلسطينى فى الولايات المتحدة، فقد أظهر استطلاع للرأى أجراه معهد بروكنجز عام 2014 إلى أن 38% من الأمريكيين يؤيدون فرض عقوبات على اسرائيل بسبب بنائها للمستوطنات غير الشرعية على الأراضى الفلسطينية المحتلة، وفى العام الماضى قفزت تلك النسبة الى 46%. أما اذا انتقلنا الى الحليف الثانى لإسرائيل وهو بريطانيا فنجد أن حركة المقاطعة الشعبية لإسرائيل لا تقتصر على بنائها المستوطنات على الأرض المحتلة، وانما تمتد الى قضية الاحتلال ذاتها والاضطهاد العنصرى الذى تمارسه اسرائيل ضد السكان الفلسطينيين، وقد نشأت فى الأوساط الأكاديمية منذ عدة سنوات حركة قوية لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية والأساتذة الذين يعملون بها ورفض التعاون الأكاديمى مع اسرائيل، وانتشر بين المثقفين اتجاه قوى لانتقاد إسرائيل وسياستها العنصرية، وفى بداية الشهر القادم يعاد فى لندن عرض مسرحية «اسمى راشيل كوري» التى عرضت لأول مرة عام 2005، وهى تصور مصرع الفتاة الأمريكية التى تضامنت مع الفلسطينيين الذين رفضوا ترك منازلهم التى كانت الجرافات العسكرية تستعد لهدمها، لكن هذا لم يوقف عملية الهدم وسقطت الفتاة الأمريكية مع الفلسطينيين تحت عجلات جرافات الاحتلال.

والحقيقة أن المسرح البريطانى قدم منذ بداية هذا القرن عددا من المسرحيات التى أظهرت ان المسرحيين والمثقفين البريطانيين على وعى كامل بالقضية وليسوا ضحايا لآلة الدعاية الصهيونية التى تتحكم فى الإعلام الغربي، وقد ضمت هذه العروض المسرحية بعض أكبر الأسماء المسرحية فى بريطانيا مثل دافيد هير وكاريل تشرتشل، فى الوقت الذى رفض مسرح «ترايسكل» استضافة مهرجان السينما اليهودية لأنه كان ممولا من السفارة الإسرائيلية فى لندن، كما أن الكاتب المسرحى الشهير هارولد بنتر وجه أكثر من مرة نقدا شديدا للسياسة العنصرية الإسرائيلية. وقد نشرت أخيرا صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية أن المقاطعة الأوروبية لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية كبدت الاقتصاد الإسرائيلى خسائر تقدر بستة مليارات دولار عامى 2013 و2014، وأن حجم الخسائر المتوقعة هذا العام قد تصل الى 9،5 مليار دولار، فى الوقت الذى سحبت أخيرا شركة كي. إل. بي. النرويجية للتأمينات استثمارات من شركتين ألمانيتين لمواد البناء ثبت تعاملهما مع المستوطنات فى الضفة الغربية.

إن القضية الفلسطينية حية لم تمت، بل ويزداد مؤيدوها فى العالم يوما بعد يوم، وإن انشغل عنها العرب فى الوقت الحالى بقضاياهم الداخلية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف