الأهرام
عبد الرحمن سعد
الوصية 1439
قصدتُ أن أكتبَ عن حلول عام هجري جديد هو "1439" قبل بدئه بنحو أسبوعين حتى أنبِّهَ نفسي، والغافل، إلى ختام العام الحالي (1438)، بأمر مهم هو أن يكتب المسلم وصيته، مبادرةً لأيامه.
وإذ يلفظ "1438" أنفاسه الأخيرة، وتتساقط آخر أوراقه، يوم الأربعاء بعد المقبل، نجد أنفسنا في سعة، لكتابة الوصية، طيلة هذه المدة، ليطرق عام "1439" بابَنا، وقد تخففنا من الذنوب والمعاصي، وأثقلنا ميزاننا من العمل الصالح، رجاءَ الآخرة.

إذ ليس أعظم، من أن نُذِّكر في مستهل عام جديد، بحقيقة يعلمها الجميع، لكنها تتوه منه في زحمة الانشغال بالحياة، هي أن الموتَ قد يأتى بغتة، وأنه يجب الاستعداد لاستقباله، في أي لحظة، بنفس راضية، تحسن الظن بالله.

عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: "سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل موته بثلاثة أيام، يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل".

والأمر هكذا، شرع الإسلام للمسلم أن يكتب وصية لذوي رحمه وصلته، يقومون بتنفيذها بعد رحيله. وهذا ليس استدعاء لهاجس الموت، وإنما إحسان للتعامل مع الحياة. قال تعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ".(المُلك:2).

قيل إن هذا من روائع التقديم والتأخير في القرآن، إذ كان الموت موجودا أولا، باعتباره مخلوقا كالحياة. وقال مفسرون: إن تقديم الموت حصل هنا لأنه أشد على النفوس، والمقام مقام تذكير. وقال بعضهم إن الموت والحياة هما الدنيا والآخرة.

وبالجملة: "قد يكون الموت أكثر تحفيزا من الحياة"، وفق مقولة "جورج باتون" التي استعان بها "ستيف تشاندلر" في كتابه "100 طريقة لتحفيز نفسك"، موضحا - تحت عنوان: "ارقد على فراش الموت" - أنها عبارة عن تدريب أخضعته له المعالجة النفسية "ديفرز براندين"، وطلبت فيه منه أن يتخيل نفسه على فراش الموت، وأن يتقمص المشاعر المرتبطة بوداعه لكل شخص مِنْ حوله، وماذا سيقول له؟

وفي تأكيد أهمية الوصية، وكونها لا تخص عمرا محددا ككِبر السن، أو عدم الزواج؛ واعتبارها رحمة بالميت، وحفظا لحقوق الأحياء؛ أوصى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بألا يبيت أحدنا ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه.

روى البخاري ومسلم: "عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ". قال نافع: "سمعتُ عبد الله بن عمر يقول: ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك إلا وعندي وصيتي مكتوبة".

والأمر هكذا، تجب الوصية على كل مسلم عاقل بالغٍ، إن ترك مالًا يمكن أن يوصي به؛ لكن بعض الناس ينفر من كتابتها، على الرغم من أنها محفزة للحياة بشكل أعمق، وأنها مجرد احتياط لئلا يفاجئه الموت قبل أن يتخلص من الحقوق التي عليه.

إن "الوصية"، في اللغة، مأخوذة من "وصيتُ الشيء" إذا وصلته، وسُمِّيت بذلك لأنها وصلٌ لما كان في الحياة بعد الموت. وشرعًا هي هبة الإنسان غيره عينًا أو دَينًا أو منفعة على أن يملك المُوصَى له تلك الهبة أو المال بعد موت المُوصِي.

وبالنسبة لحكمها الشرعي، قال علماء إنها تكون واجبة أو مستحبة أو مكروهة أو محرمة, بحسب مضمونها. وأضافوا أن الأصل فيها الاستحباب؛ لحديث ابن عمر، المشار إليه، وأنها تكون محرمةً إذا انطوت على ظلم، بينما تكون واجبةَ إذا تعلقت بحقوق للآدميين؛ كالديون, والأمانات.

وفي هذا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ". (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَة،َ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ".(قال الألبانى: صحيح).

أما أبرز ما يجب أن تشتمل عليه، فهي وصية الأقارب بأن يدعو كل منهم للموصِي، حال بلوغه نبأ وفاته، بالمغفرة والرحمة، مع تجنب النياحة والبكاء بصوت مرتفع، وتحديد من يتولى الغسل، وتعجيل الدفن، وأن يكون في أقرب مكان.

وكذلك يحدد المرء، في وصيته، الصدقات التي يود أن تُصرفَ بعد موته، على ألا تتجاوز ثلث ماله، إذ يجب عدم الإضرار بالورثة؛ لحديث: "لا وصية لوارث"، ولقولِ الرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لسَعْدٍ بن أبي وقاص، عن تصدقه بعد موته: "الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ".

هذا وإذا لم يدفع الزوج مؤخر الصداق لزوجته في حياته، فليكتبه في وصيته، ويُعتبر من الضمانات التي عليه للآخرين، على أن يتم دفعه من ثلث المال.

ويجب التنبيه أيضا إلى أن ما يتصدق به الإنسان في حياته خيرٌ له من الصدقة بعد وفاته. رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: "لأَنْ يَتَصَدَّق الرَّجُل فِي حَيَاته وَصِحَّته بِدِرْهَمٍ خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّق عِنْد مَوْته بِمِائَةٍ".

وعن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ". (البخاري ومسلم).

قال النووي: "قَالَ الخطابي: "مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الشُّحّ غَالِب فِي حَال الصِّحَّة, فَإِذَا شَحّ فِيهَا وَتَصَدَّقَ كَانَ أَصْدَقَ فِي نِيَّته وَأَعْظَم لأَجْرِهِ, بِخِلَافِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْت، وَرَأَى مَصِير الْمَال لِغَيْرِهِ فَإِنَّ صَدَقَته حِينَئِذٍ نَاقِصَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَة الصِّحَّة وَالشُّحّ رَجَاء الْبَقَاء، وَخَوْف الْفَقْر".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف