الأهرام
عبد المنعم سعيد
كتاب أبيض عن الصحافة القومية
هذا هو عصر فتح الملفات الصعبة، لم يعد هناك مفر من النظر فى المرآة لكى لا نرى الجمال وحده، وإنما أيضا القبح وقت يحل. وهنا فإن الشفقة ربما تكون واجبة على الذين وقعت عليهم المسئولية عن واحدة من ملفات البلاد المستعصية، وبات عليهم أن يأخذوها إلى بر الأمان. ملف الصحافة القومية واحد من هذه الملفات، وهو بالتأكيد جزء من ملف أكبر هو ملف الإعلام «القومى»، وفى مقدمة المُخَلصين يقف الأستاذان مكرم محمد أحمد وكرم جبر أعانهما الله على تحمل هذا العبء الوطني. سوف نترك الإعلام فى عمومه الآن، ونركز على الصحافة «القومية» أى تلك التى تمثل الهم العظيم للهيئة الوطنية للصحافة، وهى كما فى كل الملفات الصعبة لها أبعادها المتشعبة مقدما شهادتى القادمة من خدمة قدرها 37 سنة فى صحيفة الأهرام القومية العريقة.

فى مقال سابق نشرته فى هذا المقام ناديت بقانون جديد للصحافة القومية، يوضح بشكل قاطع وصريح ولا لبس فيه، الطبيعة الخاصة بالصحف القومية وعما إذا كان ذلك يضعها وسط شركات القطاع العام أو أنها هيئات عامة ذات طبيعة خاصة يرد عليها ما يرد على القطاع الخاص من قواعد وأحكام. وهذه المرة فإننى أدعو الأستاذ كرم جبر ورفاقه الكرام فى الهيئة الوطنية للصحافة إلى وضع كتاب أبيض يضع جميع الحقائق المالية للصحف القومية فى نصابها. وفى حديث أخير أدلى به الأستاذ كرم جبر إلى صحيفة المصرى اليوم الغراء ذكر ثلاث حقائق لافتة للنظر: أولاها أن حجم الدين الواقع على الصحافة القومية يبلغ 19 مليار جنيه. وثانيتها أن ذلك يمثل «حجم الدين الورقي» لأن الدين «الفعلى» هو تقريبا ثلث تلك المبالغ لأنه بعد أن جرت مفاوضات بين المؤسسات الصحفية والبنوك وجدنا أن الدين الذى يبلغ مليار جنيه فإنه انخفض إلى 80 أو 90 مليون جنيه أى أقل من 10% من المبلغ المدعى به. وثالثتها أن الديون المتعددة الأبعاد ( بنوك وتأمينات وضرائب وفى أحيان جرى احتساب منح باعتبارها ديونا) تراكمت عبر فترة زمنية الأكثر من 50 سنة.

وبالرجوع إلى جلسة مجلس الشورى المالك السابق للصحف القومية نجد أن مضبطة المجلس سجلت فى 9 يونيو 2012 «أن مؤسسات الصحف القومية تعانى من أوضاع مالية سيئة بإجمالى خسائر يزيد على 10 مليارات جنيه حيث منيت بخسائر أكثر من 3 ونصف مليار جنيه خسائر متراكمة، وأكثر من 3.3 مليار جنيه قروضا مصرفية، وأكثر من 1.9 مليار جنيه ضرائب تخص مؤسستين فقط منها، بخلاف ما عليها من مستحقات لوزارة التأمينات الاجتماعية». لاحظ هنا أن الفارق بين الرقم الذى ذكره الأستاذ كرم جبر، والرقم السابق عليه فى مضبطة مجلس الشوري، هو تسعة مليارات جنيه، أى أن جملة الخسائر لدى المؤسسات الصحفية القومية خلال السنوات السبع الماضية (سنة الأرقام لمضبطة مجلس الشورى هى 2010) وحدها ماثلت تقريبا جملة الخسائر خلال أكثر من أربعين عاما سابقة عليها.

وشهادتى على الأمر الخاص بالخسائر أنه يعود إلى عام 1968 ولكنه لم يؤخذ بالجدية التى يستحقها إلا مع عقد الثمانينيات من القرن الماضى عندما بدأت المحادثات بين الصحف القومية ووزارة المالية والتى اختلف فيها الجانبان دائما على تصفية، الضرائب السابقة، والتعامل مع فوائدها، والخلاف عما إذا كانت الصحف القومية تقدم «خدمة» أم «منتجا»، ولم يستقر الأمر إلا فى عهد وزير المالية د. يوسف بطرس غالى الذى اقترح صفقة تقوم على إلغاء كل ديون المؤسسات الصحفية السابقة على عام 2006 على أن تبدأ فى الالتزام بالسداد المنتظم للضرائب وهو ما حدث من بعضها بالفعل اعتبارا من الأول من يوليو 2006، وبالنسبة لمؤسسة واحدة منها تم سداد حتى 31 يناير 2010 مبلغ 283 مليون جنيه، فيما يتعلق بضرائب الدمغة والمرتبات والمبيعات والخصم والتحصيل لحساب الضريبة؛ وظل الخلاف قائما حول ما يسمى بالضريبة على أرباح الأشخاص الاعتبارية، والضرائب المقدرة جزافيا على المؤسسات حيث كانت متداولة أمام المحاكم. وفى الحقيقة أنه خلال هذه الفترة (2006 إلى 2010) توقفت مؤسسة صحفية عن السحب على المكشوف من البنوك، وأكثر من ذلك أن المديونية المستحقة للبنوك على المؤسسة انخفضت من 426 مليون جنيه فى 30/6/2007 إلى 10 ملايين فى 30/6/2010، وفى نفس الوقت تصاعدت الأرصدة النقدية طرف البنوك لذات المؤسسة من 176 مليون جنيه إلى 455 مليون جنيه فى 30/6/2010، ونتيجة لذلك فإن الفوائد المدينة لذات المؤسسة انخفضت بين العامين من 110 ملايين إلى 4 ملايين جنيه، بينما ارتفعت الفوائد الدائنة من 8 ملايين إلى 16 مليونا.

خلاصة الأمر أن قضية خسائر ومديونية المؤسسات الصحفية القومية أكثر تعقيدا بكثير مما تبدو، وكان فيها أحيانا الربح والاستثمار فى الأصول المادية التى قدرها المجلس الأعلى للصحافة فى جلسته فى 11 نوفمبر 2014 بما قدره 150 مليار جنيه، وفى تقديرنا أن الرقم أكثر من ذلك بكثير. ولذا فإن أمر الصحافة القومية فيما يتعلق بقدراتها الاقتصادية يحتاج إلى كتاب أبيض يتم فيه تحرير القضية فى أصولها ومنابعها، ومراجعة فترات الصعود والهبوط فيها، والعوامل القانونية والاقتصادية المؤثرة فى الإدارة لكل مؤسسة بحيث يكون التقييم عادلا، والمسئولية واضحة وجلية. فلا نحتاج تقريرا آخر يتسم بالعمومية الشديدة حول أوضاع صعبة، وإنما توضع فيها النقاط على الحروف وتحتها أيضا. ولكن ما يبقى فى الذهن أن قضية الصحافة القومية ليس تحديد هويتها فقط، أو تبيان تاريخها الاقتصادي، وإنما أنها فى الأول والآخر هى منصات لإنتاج «المحتوي» الفكرى والثقافى فى البلاد. وفى مثل هذه الحالة فإن الهيئة الوطنية للصحافة يكون عليها التفكير فيما لم يسبق التفكير فيه، والبحث الجريء والشجاع فيما يجعل المستحيل ممكنا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف