الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
شرائِحُ لَحْمٍ بطَعْمِ الحُرِيَّةْ
كان الجزار وصبيانه على موعد مع أحد (عجول) الأضاحى التى ضمتها قائمة عمل موسمهم فى هذا العيد، يعتبرون عيد الأضحى فرصة سانحة لتحقيق ربح وفير فى يوم واحد، يعقبه ربح مضمون عند غير المتعجلين بذبح أضاحيهم، يبوح لى (الجزار) بأن هذا الموسم بربحه يدفعه للحصول على إجازة من عمله، ليقضى العيد بين أحضان وطنه وأسرته، ويضمن فى الوقت نفسه دخلاً من عمل العيد يعوض ما فوتَهُ.

يطول انتظار (الجزار) لصبيانه الذين توجهوا لإحضار (عجل) الأضحية، وقبل أن يُعْيِيهِ قلق الانتظار، يأتيه اتصال من أحد صبيانه يطلب الدعم للسيطرة على (العجل)؟، يوجه (الجزار) خطابه لمساعده (قلت لك دول عيال ما تقدرش على عجل كبير)، ويتحرك مساعد الجزار مسرعاً (فخوراً) بثقة المعلِم التى ربما تؤهله لأن يرشحَهُ للعمل معه، لكن دقائق معدودة مرت قبل أن يقتحم علينا أحد صبية الجزار المكان ليصرخ فى المعلِم (إلحقنا العجل هيموتنا)، ينطلق الجزار مسرعاً وهو يتمتم بكلمات لا أستبينها، لكنى أقرر أن أصحبه لأتابع حِيَلَه التى سيستخدمها ليحتوى هذا العجل المارق.

بمجرد وصول الجزار إلى موقع (العجل)، استدار الأخير إليه وتبادلا نظرات سريعة، كان كلاهما يتفحص الآخر، بدأ الزبد يتقاطر من فم (العجل) المربوط، بينما بدأت قدمه الأمامية تتحرك نابشة الأرض تحتها بتحفز، بينما تدور رأسه يميناً ويساراً معلنة التحدي، فى هذا الوقت كان (الجزار) قد أدرك حجم خصمه، فقرر التحرك من فوره محضراً قطعة قماش كبيرة و ألقاها على وجه (العجل)، ثم بدأ فى ربط قوائمه الأربع ومعها رقبته وراح يجره بحذر صوب السيارة حتى اعتلاها وبدأت الحركة صوب مكان (الذبح).

حين انتهى الجزار من إعمال سكينه فى رقبة الأضحية، بدت علامات الانتصار على وجهه، وحين قرر فصل رأس الذبيحة عن جسدها، حملها بين يديه وهو يزهو بانتصاره مخاطباً العجل (ما فيش من المكتوب مهروب يا حلو)، سألته عن سر هياج (العجل) فأجاب (دا عجل حر يا أستاذ وعلشان كده كان رافض إنه يِتْرَبَطْ).؟!استوقفنى تعبير الجزار (عجل حر)، فسألته التوضيح، فجاءت إجابته (تربية العجول نوعين مربوط أو حر وسايب، والاثنين راجعين لطبيعة دماغ المُرَبي، يعنى فيه مربى بيعتمد نظام المعالف المقفولة وبالتالى بيربى العجول مربوطة فى أماكن محددة، وده فى الغالب بيكون شغله تجارى لأنه عايز كل جهد العجل يكون متخزن فى لحم ودهون وده بيكون سهل فى الجر والربط والدبح، وفيه مُرَبِّى بيكون نظامه هو المعالف المفتوحة والعجول بتبقى سايبة، وده مُرَبِّى صاحب مزاج، بيسيب العجول تتحرك براحتها وهذا شيء يجعل العجل أكثر نشاطاً وإقبالاً على الطعام وبالتالى تقل الدهون فيه لصالح اللحم وهو ما يجعل لحومها أشهى وأفضل وإن كان ممكن يكون وزنها أقل.

دفع الفضول كاتب هذه السطور إلى البحث فى الأصول العلمية لنظرية (المربوط والسايب فى العجول)، فاكتشفت أنها مدارس حقيقة فى أصول تربية الماشية، ولكل منها على صفحات الإنترنت المتخصصة فى هذا المجال مريدون وأتباع، ينتصرون لمدارسهم ولأساليبهم ويعددون ميزات كل منها وعيوبها، الأمر إذنً ليس مجرد (فَتْيٍّ) من الجزار بل هو انعكاس لفلسفة حقيقية تقوم عليها أسس التربية الحيوانية، لكن أنصار مدرسة (العجول السايبة) يستطيعون إلى حد كبير الانتصار على خصومهم من أنصار مدرسة (العجول المربوطة)، استناداً على كونهم الأقرب للفطرة الحيوانية أو الأكثر محاكاة للبيئة الطبيعية التى يحيا فيها العجل، وهو ما يجعله أقوى بدنًا و أكثر شهيةً، وأقدر على مواجهة العِلَلْ والأمراض، وأقرب لملاحظة الراعى حال اعتلال أى عجل يضمه القطيع.

فى (معجم المعانى الجامع) يتم تعريف الحرية باعتبارها (حالة يكون عليها الكائن الحيّ الذى لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة ويتصرّف طبقًا لإرادته وطبيعته)، وحين يتم إسقاط هذا التعريف على تاريخ حياة (العجل الراحل)، نكتشف أنه قد عايش (الحرية) حالة كاملة فى كنف مربىاستطاع أن يمنحه من الإحساس بعدم الخضوع فى الحظيرة، قهراً لأى قيدٍ يخرجه عن فطرته، ونَمَّى لديه الإحساس بكونه الغالب داخل الحظيرة، حتى بات يتصرف فيها مع مأكله ومشربه طبقاً لإرادته، وراح يتعاطى مع أقرانه من عجول الحظيرة طبقاً لطبيعته، وهكذا تغدو (الحرية) فطرة ربانية لكل الكائنات الحية، قادرة حال تفعيلها أن تُخَلِف حالة من النمو، ولَنَا فى (العجل الفقيد) أسوةٌ حسنة، فهو ببساطة نما وترعرع متنعماً بقيمة (الحرية)، حتى حانت لحظة تمام رسالته، فكان الأجل على يد جزار سلبه الحياة ناقلاً مدخراته من لحوم إلى أفواه تتلذذ بمذاقٍ مختلفٍ لشرائح لحم أنتجتها بيئة الحرية التى تربت فيها تلك الأضحية..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف