المصرى اليوم
أحمد الجمال
محاولة لتجاوز الأحزان
تقرأ فيما تحب أن تقرأ لتخرج ولو قليلاً مما أنت فيه من حال تستوجب الخروج بل الهروب.. وما أثقل وأشد من حال فقد الأصدقاء والأحبة، ومنهم أعلام يدرك المرء كم هى خسارة الوطن برحيلهم، فتجد فيما تقرأ ما تود لو نقلته للناس، خاصة إذا اتصل الكلام بواقع مأزوم يعيشه الجميع.

التقطت كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» المعروف بالخطط المقريزية لأراجع بعضاً مما كنت قد قرأته عن دخول العرب مصر، وتوقفت أمام معلومة فصَّل فيها المؤلف تقى الدين أحمد بن على المقريزى قصة نشأة العلاقة بين عمرو بن العاص ومصر!.

ذهبت إلى المقريزى، أو بالأصح استدعيته، بعد حوار دار بينى وبين بعض من التقيتهم فى عزاء صديقى الغالى الأستاذ الدكتور على السويسى، وكان العزاء فى قاعة ضخمة بجمعية القرعان بحى الأربعين فى السويس، وكان الحوار حول ظاهرة النزوح من الصعيد خاصة إلى السويس، وامتد ليشمل ظاهرة الحراكات البشرية إلى مصر ومدنها وأرجائها بوجه عام، وتوقفنا عند دخول العرب مصر.. على أمل فى استكمال الحوار!.

وفى الحوار قلت إن عمرو بن العاص كان يأتى إلى مصر فى الجاهلية ليستمتع بمدنيتها وعظمة ما فيها من عمران ومن مظاهر حضارية وثقافية، وأيضاً ما فيها من متع تستهوى قادماً من بيئة صحراوية يغلب عليها البساطة فى كل شىء.. وقد اخترت صفة البساطة حتى لا أوغل فى وصف صورة البيئة الصحراوية، بما قد يُظنُّ معه أنه للحطِّ من شأن الصحراء وأهلها! وقلت يبدو أن «عمرو» انبهر بما رأى وعايش واستمتع، فلما جاءت اللحظة المناسبة انطلق لتكون مصر كلها له!.

وبالطبع استنكر البعض هذا الذى بدا لى، فلما استدعيت المقريزى وجدت ما يلى نصاً فى «الجزء الأول ص 444 الطبعة الأولى لمكتبة مدبولى سنة 1997»: «..وقال ابن عبدالحكم‏:‏ فلما كانت سنة ثمان عشرة من الهجرة وقدم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجابية خلا به عمرو بن العاص واستأذنه فى المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخل فى الجاهلية مصر وعرف طرقها ورأى كثرة ما فيها، وكان سبب دخوله إياها أنه قدم إلى بيت المقدس لتجارة فى نفر من قريش فإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية قدم للصلاة فى بيت المقدس فخرج فى بعض جبالها يسيح، وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه، فبينما عمرو يرعى إبله إذ مرَّ به ذلك الشماس وقد أصابه عطش شديد فى يوم شديد الحرِّ، فوقف على عمرو فاستسقاه فسقاه عمرو من قربة له فشرب حتى روى، ونام الشماس مكانه، وكانت إلى جنب الشماس حيث نام حفرة خرجت منها حية عظيمة فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها. فلما استيقظ الشماس نظر إلى الحية وقال لعمرو‏:‏ ما هذه‏؟‏ وأخبره عمرو أنه رماها فقتلها، فأقبل إلى عمرو وقبَّل رأسه وقال‏:‏ لقد أحيانى الله بك مرَّتين‏:‏ مرَّة من شدَّة العطش ومرَّة من هذه الحية فما أقدمك هذه البلاد؟ فقال‏:‏ قدمت مع أصحاب لى نطلب الفضل فى تجارتنا، فقال له الشماس‏:‏ وكم تراك ترجو أن تصيب فى تجارتك فقال‏:‏ رجائى أن أصيب ما أشترى به بعيراًَ فإنى لا أملك إلا بعيرين، فقال له الشماس‏:‏ أرأيت دية أحدكم بينكم ما هى؟‏ قال‏:‏ مائة من الإبل فقال له الشماس‏:‏ لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير قال‏:‏ تكون ألف دينار، فقال له الشماس‏:‏ إنى رجل غريب فى هذه البلاد وإنما قدمت أصلى فى كنيسة بيت المقدس وأسيح فى هذه الجبال شهراً، جعلت ذلك نذراً على نفسى وقد قضيت ذلك وأريد الرجوع لبلادى، فهل لك أن تتبعنى إلى بلادى ولك علىَّ عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين، لأن الله أحيانى بك مرَّتين فقال له عمرو‏:‏ أين بلادك؟ قال‏:‏ مصر، فى مدينة يقال لها الإسكندرية، فقال له عمرو‏: لا أعرفها ولم أدخلها قط، فقال له الشماس‏:‏ لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها، فقال له عمرو‏:‏ تفى لى بما تقول ولى عليك بذلك العهد والميثاق، فقال له الشماس‏:‏ نعم ولك والله علىَّ العهد والميثاق أن أفى لك وأن أردَّك إلى أصحابك، فقال له عمرو‏:‏ وكم يكون مكثى فى ذلك، قال‏:‏ تنطلق معى ذاهباً عشراً وتقيم عندنا عشراً وترجع فى عشر، ولك علىَّ أن أحفظك ذاهباً وأن أبعث معك من يحفظك راجعاً».

وطلب عمرو من الشماس أنْ يُنْظره ليشاور أصحابه الذين ذهب إليهم وأخبرهم بما جرى، وطلب إليهم أن ينتظروا عودته ووعدهم بنصف ما سينال، وأن يصحبه رجل منهم يأتنس به، وانطلق مع الشماس حتى انتهوا إلى مصر.

ويقول المقريزى: «فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه، ومضى إلى الإسكندرية فنظر عمرو إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة وجودة بنائها وكثرة أهلها، فازداد عجباً ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيداً فيها عظيماً يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ولهم كرة من ذهب مكالة يترامى بها ملوكهم وهم يتلقونها بأكمامهم وفيما اختبروا من تلك الكرة- على ما وصفها من مضى منهم- أنه من وقعت الكرة فى كمه واستقرَّت فيه لم يمت حتى يملكها. فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه وجلس عمرو والشماس مع الناس ذلك المجلس، حيث يترامون بالكرة فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كم عمرو فعجبوا من ذلك وقالوا‏:‏ ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرَّة أترى هذا الأعرابىُّ يملكنا؟، هذا ما لا يكون أبداً.. وإنَّ ذلك الشماس مشى فى أهل الإسكندرية وأعلمهم أنَّ (عمرو) أحياه مرَّتين، وأنه قد ضمن له ألفى دينار وسألهم أن يجمعوا ذلك فيما بينهم ففعلوا ودفعوها إلى عمرو الذى انطلق وصاحبه ومعهما دليل بعثه الشماس لهما وزوَّدهما وأكرمهما حتى رجع هو وصاحبه إلى أصحابهما، فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها أموالاً، فلما رجع لأصحابه دفع إليهم فيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه ألفاً.. قال عمرو‏:‏ وكان أول مال اعتقدته وتأثلته»‏.‏. انتهى نص المقريزى الذى لو كنا نعرضه فى متن بحث تاريخى لتعين أن نفكِّكه ونحلله ونفسر ما غمض منه ونكشف دلالات عديدة فيه ومنه، إلا أن المساحة لا تسمح، ولكن النص يؤكد أن «عمرو» دخل مصر من قبل، وأن الأمر فى دخول العرب مصر لا يقتصر على الجانب الدينى وإنما يتعداه إلى ما انبهر به ابن العاص.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف