التحرير
سامح عيد
الكهنة وحراس المعبد
من يتحدث في الدين؟
هل الأزهر فقط؟ الطبيب يتحدث في الطب والمهندس يتحدث في الهندسة، فلماذا لا يتحدث في الدين إلا دارسوه؟
هل أصبح الدين كلأً مباحا للمغامرين والجهلاء؟
يواجهونك بمصطلحات:
المطلق والمقيد، العام والخاص، الجزئي والكلي، الناسخ والمنسوخ، الدنيوي والتشريعي، المرتبط بالعلة والمقصد، والعام والمؤبد.
وبالطبع عليك أن تبتلع لسانك وتترك الأمر لحراس المعبد وللكهنة، وبعد ذلك يقول بجرأة يُحسد عليها: الإسلام ليس به كهنوت وليس به رجال دين.
عندما سئل فرج فودة نفس السؤال: الطب له متخصصوه وكذلك الهندسة فلماذا الدين كلأ مباح يتحدث فيه الجميع؟ -وللعلم الدكتور فرج فودة كان دكتورا في الزراعة- قال بكل أدب: الطبيب لا يطالبنا بالإيمان بما يقول، ولكنهم يطلبون ذلك.

كما يقولون: الأزهر عمره ألف سنة، ويأتي السؤال: ألف سنة لا ينازعه أحد في علومه، إلا بعض الشذرات هنا وهناك في القرن العشرين، وخرج الأزهر من تلك المعارك منتصرا، وألحقوا هزائم كبيرة بمناوئيهم، سواء لطفي السيد أو طه حسين أو حتى علي عبد الرازق أو غيرهم من المفكرين والكتاب، ولكنه انتصر اعتمادا على ضحالة الثقافة لدى العامة وسيطرتهم على المنابر واستخدام لغة عاطفية رعناء، وانتصارهم على المفكرين لم يكن انتصارا على الواقع الذي أردانا إلى التخلف ودفعوا الأمة إلى مزيد من التخلف عن طريق الدعاوى الكاذبة بأن هزائمنا المتتابعة وتخلفنا راجع إلى عدم التزامنا بالدين، رغم أن هذه الدعاوى الكاذبة سترتد إلى نحورنا، فهل انتصرت علينا إسرائيل لالتزامها بدينها؟ وما تفسير تقدم اليابان والصين وأمريكا نفسها؟ وهذا ما خلق جيلا جديدا من الشباب دخل نسبة منه لا يستهان بها إلى مربعات الشك المختلفة.

معركتنا الآن مختلفة، فالقضية كانت نخبوية في القرن الماضي، ولكنها الآن مفتوحة على مصراعيها، بعد كثافة الأحداث في السنوات الماضية، ووصول الإسلام السياسي للحكم في مصر وانهياره السريع، وظهور داعش وتطور العمليات الإرهابية ووصولها إلى الدهس بالسيارات واستخدام السلاح الأبيض ضد مدنيين، بعض هؤلاء الشباب لم يتجاوز عمره 18 عاما، ولكنهم معبئين بغضب ومشبعين بكراهية ومؤمَّلين بوعود بالجنة. الإرهابيون المؤدلجون يستخدمون آيات من القرآن وتفاسير معتمدة وآراء فقهية ومرويات منسوبة للنبوة لتبرير عنفهم، والأزهر يكتفي بقول واحد ليس من الدين، فالدين بريء من أفعالهم، وفي نفس الوقت يقدسون التاريخ بما يحمل من جرائم في كثير من جوانبه، بل ويعتبرونه دينا، ويقدسون مرويات تؤصل للعنف من قبيل: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى» منسوبا إلى النبوة ويناورون لتحويرها ولا يواجهون بنفي نسبتها للنبوة. ويُصرّون على أن مقولة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" نص أصولي مقدس بما يعني أن إلزامية النص ممتدة مع الزمن إلى الأبد فماذا سيفعلون مع نص مثل قوله تعالى «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» (29) سورة التوبة.
ما زالوا يُصرون على حد الردة انطلاقا من مروية تقول (من بدّل دينه فاقتلوه) ثم يناورون بامتداد الاستتابة بدلا من ثلاثة أيام كما يقول الفقه، إلى وقت غير محدد، هذا هو منتهى التجديد عندهم، ولكن الآخرين لن يأخذوا بآرائهم لأنهم طبقا للتراث المقدس ليس لهم دليل، أما الآخرون فأدلتهم، استنادا إلى نفس النبع الذي يأخذ منه الأزهر، موجودة. وإذا جئنا لرؤية الاستبعاد والإقصاء من منطلق عدم التخصص استنادا إلى فكرة الطب والهندسة، فقد جعلوا من أنفسهم أصحاب مهنة، فهؤلاء رجال طب وهؤلاء رجال هندسة، إذن هؤلاء رجال دين، ثم يقولون بكل جرأة الإسلام ليس به رجال دين. ومن نفس هذا المنطلق نقول لهم دكتور الأمراض الجلدية لا يحق له أن يقوم بإجراء عمليات ولادة، وعلى هذا الأساس، فدكتور العقيدة لا يحق له أن يتحدث في الفقه، ودكتور الفقه ليس له علاقة بعلم الحديثة ، ودكتور الفلسفة لا يتحدث في العقيدة، ولكنهم يخالفون هذا ويجعلون رجال الدين يتحدثون في كل الأمور التي جعلوها دينا، فهم يريدون خضوع المجتمع لهم حتى في قوانينه الإنسانية الدنيوية على أساس أن الدين لم يترك شاردة ولا واردة إلا وكان له فيه رأي، وهذا مخالف للواقع، فالدين وضع أخلاقا كلية والتفاصيل ما هي إلا اجتهادات زمنية غير ملزمة، ولا مجال لنا للخروج إلا بالعودة إلى نبع الأخلاق الكلية وإنتاج الجزئيات والتفاصيل الحياتية بالشورى ومن خلال الواقع والمصلحة من جموع المهتمين بالشأن العام والمتصدرين لأمور السياسة والتشريع.
الدين كفقه وممارسة من العلوم الإنسانية، ففيه التاريخ وفيه الفلسفة وفيه الاجتماع الإنساني والبشري بإخفاقاته وإثاباته يلتقطها المثقفون ويستنطقون أحداثها ويستلهمون حكمتها ليصوغوا الواقع طبقا لزمانهم، وفي النهاية لا وصاية لأحد، لا لرجال دين على عامة، ولا لرجال ثقافة عى هوام، فالنقاش الحر والشورى والمصلحة تنتج صيغا للواقع قابلة للصحة والخطأ، تختبر في معمل الحياة، فإما الإبقاء عليها وإما تجاوزها إلى اختبار آخر. هذه هي الحياة بكل ما بها من شجون ومن دراما وأي وصاية باسم الثوابت التفصيلية ستتحطم على صخرة الواقع.
الموجة هذه المرة عالية، ونصيحتي للأزهر قبل أن يجرفه الطوفان وتبتلعه الأعاصير أن يكون أكثر حداثة وأكثر تفتحا وأكثر تفهما لأدوات عصره وعقول شبابه، فالمعركة هذه المرة ليست سهلة كمعركة القرن العشرين فاحذروا وتيقظوا فالحاجة ماسة لدينامكية أكثر وتجاوب أسرع مع التغيرات.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف