الأهرام
مصطفى السعيد
الفكر الإرهابى المهزوم لا يجد من يدفنه!
دائما ما تنتشر أفكار المنتصرين حتى لو كانت عنصرية ولا أخلاقية ورجعية، وتخبو أفكار المهزومين حتى لو كانت أكثر إنسانية وعدالة، فلا يكفى للأفكار أن تكون عادلة وعقلانية حتى تنتصر، فهذا يحدث فى الأمنيات والأحلام فقط.

لقد انتشرت النازية لأن ألمانيا كانت تحتاجها بعد الهزيمة فى الحرب العالمية الأولى، وكانت تريد النهوض، وتنفض غبار معاهدة فرساى الظالمة، وشحذت كل الهمم الوطنية إلى حد التطرف والعنصرية، لتستعيد ثقتها والأراضى التى تنازلت عنها عنوة، وتبرر سلوكها العنيف الرامى لأن تحتل أراضى الآخرين، ولولا هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية ما تبرأ الألمان من أفكارهم النازية.

لم يكن انتشار الأفكار التكفيرية فى منطقتنا لأنها جيدة، أو لأنها تحمل راية الدين المقدس، وإنما لأن طبقات اجتماعية ونخبا سياسية ومصالح إقليمية ودولية قد احتضنتها ورعتها ودعمتها، ورأت أنها كنز يمكن استثماره فى المعارك السياسية.

أطراف عديدة استخدمت الجماعات الدينية المتطرفة، وجاءت رياح حقبة النفط لتزيدها انتشارا وتوغلا، لكن توظيفها السياسى كان أهم أسباب قوتها واتساع نطاق مناصريها، ولم يكن الرئيس الأسبق أنور السادات هو أول ولا آخر من استخدموا الجماعات المتطرفة عندما استخدمها لمحاربة اليسار، لكن رغبة السادات فى استنهاض الجماعات المتطرفة تلاقى مع مصالح إقليمية ودولية، فقد جرى توظيف المتطرفين فى أفغانستان، وكذلك فى التصدى للثورة الإيرانية التى أثارت مخاوف العديد من دول الخليج، فجرى النفخ فى جمر الطائفية، لتشتعل النيران المذهبية.

تتعرض الجماعات التكفيرية الآن لأكبر النكسات، فهى تتلقى هزائم عسكرية وأمنية قاسية ومتوالية فى كل مكان، حتى إن أكبر التنظيمات التكفيرية «داعش» بدأت عناصره فى الاستسلام والفرار، بعد أن كان معروفا عنهم أنهم لا يقبلون إلا بالنصر أو الشهادة، وليس فى قاموسهم أن يهربوا أو يستسلموا، لأن الجنة مفتوحة فى انتظار قتلاهم، والحوريات متأهبات للترفيه عنهم، لكن معارك تلعفر فى العراق والقلمون فى سوريا ولبنان شهدت أوسع عمليات فرار واستسلام لمسلحى داعش المكسورين.

هزيمة الجماعات التكفيرية ليست عسكرية فقط، فهناك هزائم أكبر وأكثر فداحة، أولها سقوط الهيبة والهالة الأسطورية التى كانت هذه الجماعات تحيط نفسها بها، فهى فى نظر مروجيها ومعتنقيها جماعات مباركة ومرسلة من العناية الإلهية حسب زعمهم، لهذا أطلقوا الأكاذيب عن أن الملائكة تحارب معهم، وأن تصويبهم للنيران لا يخطئ، بل إن القذيفة الواحدة من أسلحة مقاتليها تصيب أكثر من هدف.

واكب هذه الدعاية أن الجماعات التكفيرية تأتى بالخير للناس، وأن العصر الذهبى للإسلام سينهض على أياديهم، فيعم الخير والعدل والأمان فى كل مكان، وتتحقق الانتصارات تلو الانتصارات، حتى تسقط الدول العظمى تحت أقدام المجاهدين، وهو ما أغرى شبابا من شتى الدول بالانضمام إلى هذه التنظيمات الموعودة بالنصر على العالم كله، لكن ماذا كانت النتيجة؟ لم يشاهد الناس إلا ارتكاب الفظائع الذبح وقتل الأسرى، واستعباد الرجال والنساء وإجبار الشباب على القتال، واستباحة دماء وأعراض كل من يختلف معهم، وهناك آلاف القصص عن تلك الفظائع التى لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا، ولم يكن هناك من يتصورون حدوثها فى القرن الحادى والعشرين.

ومع الهزائم العسكرية والسياسية والأخلاقية تحولت الحواضن الشعبية للإرهابيين إلى النفور والكراهية، واعتقاد أعداد متزايدة بأنهم لعنة أصابت بلدانهم، فالشباب يضيع فى المعارك، والحرب تدمر كل شيء، والخراب يحيط بهم من كل جانب، وفى خضم شعور المسلحين بالهزيمة يتخذون ممن احتضنوهم دروعا بشرية، يضعونهم فى مواجهة النيران ليحموا أنفسهم.

عوامل كثيرة تنبئ بأن الجماعات المتطرفة مقبلة على فترات انهيار واضمحلال، وسوف ينفض من حولها الكثيرون، فالدول الداعمة لم تربح الكثيرمن توظيفها، بل إن الآثار الجانبية فاقت الأرباح، فبدأت الكثير من هذه الدول التنصل منها، بل ادعاء أنها كانت تحاربها، وتسعى إلى محو آثار ارتكاب جرائم الدعم والتمويل والتسليح والتدريب لهذه الجماعات.

تبقى المشكلة الكبيرة المتعلقة بوجود مؤسسات وجماعات مصالح ارتبط وجودها أو ازدهار أحوالها ببقاء وانتصار هذه الجماعات، بل إن بعض الحكومات مازالت تراهن سرا على عدم انهيار الإرهاب، لعدم وجود بديل جاهز ليخوض عنها معاركها المحتدمة، وهو ما عبرعنه رئيس الوزراء الإسرائيلى نيتانياهو عقب لقائه الرئيس الروسى بوتين منذ أيام بقوله إن هزيمة داعش أفادت إيران، التى تسيطر على الأراضى التى ينسحب منها داعش، وهذا خطر على إسرائيل والمنطقة والعالم، وهو كلام مشابه لما قاله وزير الخارجية الأمريكى الأسبق والأشهر هنرى كيسنجر لصحيفة «كاب إكس» عن ارتكاب أمريكا خطأ فادحا بتخليها عن داعش، لأن أعداء أمريكا هم المستفيدون من هزيمته.

إننا نرى الدول الرأسمالية المتقدمة تستغل الأفكار الأشد تخلفا ورجعية ودموية فى سبيل تحقيق مصالحها، أما الطبقات الرأسمالية الوطنية فلا يشغلها إلا أرباحها، ولم تعد معنية أو مؤهلة لإنتاج منظومة فكرية قادرة على إلهام مجتمعاتها، وإشاعة التقدم والوعي، وكذلك خفتت شعلة اليسار التى كانت تعد بالتنوير والتقدم، وتفرقت جماعات اليسار بين تبنى أفكار الليبرالية الجديدة التى تغدق التمويل على بعضهم، وبين التحالف مع الجماعات المتطرفة بدعوى أنها ثورية ومتمردة على النظام، ويمكن الاستفادة من تمردها.

هكذا نجد أن الجماعات الإرهابية تحتضر وتتلقى الهزائم، لكنها لا تجد من يدفن جثث أفكارها البالية والمتحللة، والتى لا يمكن أن تصمد أمام عقول واعية ومسلحة بالمنهج العلمي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف