الأهرام
جمال عبد الجواد
أزمة الأحزاب ليست طارئة
الدولة لا تحب الأحزاب السياسية، ولا تأخذها على محمل الجد، ولا تفسح لها مجالا تحتاجه لتنمو. نشطاء الأحزاب من جانبهم لا يتركون فرصة إلا وقدموا سببا إضافيا لكل من لا يحبون الأحزاب، ولكل من لا يأخذونها على محمل الجد. الجميع، ومعهم التكوين الثقافى والاجتماعى لشعبنا، متحالفون - بقصد وبغير قصد- ضد الأحزاب، فكرة، وممارسة، وتنظيمات.

نخبة الدولة وأجهزتها تنظر بعدم ارتياح للتنظيمات التى تسعى للسلطة، لا مفاجأة فى هذا، لكن قصة الأحزاب لا تنتهى عند هذا الحد. السعى للسلطة هو أمر مستنكر فى العرف والثقافة السائدة، وفيها أن المرء لا يسعى للسلطة إلا لغرض أو لمرض فى نفسه. الأموال التى ينفقها المرشحون فى الحملات الانتخابية ستعود لهم بعد الفوز أضعافا مضاعفة، هذا هو التفسير السائد بين عوام المصريين للترشح والحملات الانتخابية والإنفاق الانتخابي، وهو تفسير يخلو من النبل، ولا يدعو للارتياح.

فى الفكر السياسى الإسلامى «السلطة لا تعطى لطالبها». «إنا لا نولى هذا من سأله ولا من حرص عليه»، هكذا رد الرسول الكريم على من جاءوا إليه يطلبون الإمارة. الإمارة مسئولية يحاسب المرء عليها يوم القيامة، ولا يطلبها إلا من استهان بحساب الآخرة، وفى الحديث «إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة». الأحزاب تطلب السلطة، وطلب السلطة دليل على حب الرئاسة، وهو من الأمور المكروهة فى مبادئ الأخلاق الإسلامية، رغم أن هذه المبدأ بالذات لم يحظ بالاحترام فى أغلب فترات التاريخ.

نشطاء الأحزاب مختلفون عما هو سائد بين عموم المصريين من انصراف عن السياسة، ومن تسليم بالعجز عن القدرة على التأثير. نشطاء الأحزاب فيهم مثابرة وإقدام، وفيهم أيضا فردية، وثقة فى الذات، وحب الرئاسة، يزيد عما هو موجود بين أواسط المصريين، ولهذا صلة بما تعرفه الأحزاب عندنا من نزاعات وانشقاقات وانسحابات متكررة. التضييق السياسى يساعد على ظهور علل الأفراد والتنظيمات، لكنه لا يخلقها من عدم.

تاريخنا السياسى ليس فيه سوى عدد محدود من الأحزاب المزدهرة، أهمها الوفد، وأحزاب الإسلاميين. الوطنية والدين من بين كل العقائد السياسية وفرا الأساس الفكرى للأحزاب المزدهرة فى تاريخنا. الوطنية والدين هما المبدآن الأهم فى حياتنا الثقافية والسياسية، وحول راياتهما يجتمع الناس عندما تسنح الفرصة. الناس لا يلتفون حول الحزب، بقدر التفافهم حول الفكرة التى قام عليها، فالتنظيم عندنا مازال تاليا فى الأهمية للعقيدة والفكرة.

الوطنية والدين عقائد شاملة وكلية، لا تقبل التعدد أو الانقسام. الوطن لا يقبل التقسيم، ولا يقبل ازدواج الولاء. الدين واحد، يرفض التعدد، ويرفض الشرك، ويتعالى فوق ديانات الآخرين، ولا يرتاح لأصحاب التفسيرات غير النمطية.

الوطنية والدين عقائد تميل إلى الشمولية، بكل ما فيها من عوامل لا تلائم ازدهار الأحزاب. الوطنية والدين مفاهيم كلية شاملة، عكس الأحزاب التى يمثل كل منها جزءا فقط من الكل الاجتماعي، فهذا يمثل الفقراء، وذاك يمثل الأغنياء، وهذا يمثل المحافظين، فيما الآخر يمثل المتحررين، وهكذا. الدولة ونخبتها والجيش الوطنى يختارون مبادئ وسياسات، وينحازون لأفكار وقيم وإيديولوجيات، لكن الدولة المركزية الموحدة لها فى الضمير الوطنى رصيد يسمح لها بمواصلة تمثيل الكل الوطني، حتى عندما تنحاز.

بين الوطنية المصرية والإسلام السياسى يدور الصراع السياسى الأهم فى بلادنا. المصريون منقسمون حول إجابة السؤال «من نحن»، وبين أصحاب الإجابات المختلفة يدور الصراع. »من نحن« هو سؤال الهوية، والهويات تميل لاستبعاد بعضها بعضا. صراعات الهوية لا تسمح بالتعدد والتحزب، فالهويات لا تفهم سوى لغة الاصطفاف، بما لا يلائم تعددية الأحزاب. الثلاثون من يونيو هو انتفاضة الوطنية المصرية ضد حكم الإسلام السياسي، وما نظامنا السياسى الراهن سوى نتيجة لهذا الصراع.

صراعات الهوية تهدد وحدة الكيان الوطني، ولا تسهل التعدد. وحده صراع الطبقات والإيديولوجيات الدنيوية غير المقدسة يسمح بالتعدد ويسهله. لكن صراع الطبقات فى بلادنا لم يتجاوز مرحلة السينما الصامتة، لينتج لنا أفلاما ناطقة. الصراع بين الوطنية المصرية والإسلام السياسى فى جانب منه هو صراع طبقات صامت ومستتر. الطبقات عندنا تفضل وضع مطالبها فى صياغات كلية شمولية، وطنية أو دينية، فيما يمكن اعتباره نوع من الخجل الثقافى والأخلاقى إزاء الصياغات الطبقية الصريحة. الكسل ذهنى يمنع المثقفين من إنتاج صياغات فكرية تعبر عن مصالح الطبقات وصراعاتها بشكل ينسجم مع الميراث الثقافى والحضارى للأمة المصرية. حتى تنطق الطبقات باسمها، وحتى تكف عن التخفى وراء صراعات الهوية، فإن صراعات الهوية تظل صاحبة الأولوية، ويظل لهذا أثر سلبى على الحياة الحزبية فى بلادنا.

هيمنة عقائد الهوية الوطنية والإسلام السياسى ذات النزعة الشمولية عوق ظهور تعددية حزبية فعالة، فلم تعرف مصر طوال تاريخها الحديث تعددية حزبية حقيقية. فى اللحظة الراهنة يتمتع عدد كبير من الأحزاب بوجود قانوني، لكن لا يمكن وصف الوضع الراهن بأكثر من تعددية شكلية غير فعالة. أحزابنا السياسية هى تجمعات لأفراد من النخبة، يصعب عليهم ادعاء تمثيل أى فئة محددة من فئات المجتمع خارج نطاق أعضاء الحزب وأصدقائهم.

مثلت الحقبة الليبرالية 1923-1952 أبعد نقطة وصلنا إليها باتجاه نموذج التعددية الحزبية الفعالة. فاز حزب الوفد بأغلبية كاسحة فى كل انتخابات نزيهة تم تنظيمها طوال هذه المرحلة، فبدا نظام ما قبل 1952 وكأنه نظام الحزب الواحد معدلا. غياب تعددية حزبية حقيقية كانت هى الحجة والتبرير الاخلاقى الذى استخدمه اسماعيل باشا صدقى عام 1930 عندما انقلب على دستور 1923. ينكر إسماعيل صدقى فى مذكراته المنشورة أى طابع ديمقراطى لانتخابات الوفد ، لأن الجماهير وضعت ثقتها فى حزب واحد هو الوفد، ولم تستمع سوى لشخص واحد هو زعيم الوفد، فانقادت مستسلمة له. الجماهير المنقادة من هويتها الوطنية أو الدينية يصعب عليها إنتاج نظام ديمقراطى. شيء مشابه لهذا حدث مرة اخرى فى انتخابات برلمان 2012، عندما فاز الحزبان الدينيان بثلاثة ارباع مقاعد البرلمان، فهل كانت هذه تعددية فعلا؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف