كنت أراجع بعض ما كتبه المؤرخون المصريون والأجانب حول عصر النهضة الأوروبى والعصور الوسطى التى سبقته حين لفتت انتباهى وجوه الشبه الكثيرة بين ما مر به الأوروبيون قبل نحو ستة قرون واجتازوه إلى العصور الحديثة وما لا نزال نحن فيه نتقدم خطوات إلى الأمام ثم ننكص على أعقابنا ونرتد إلى ما كنا عليه من قبل.
هذا الخلط الوبيل الذى غرقنا فيه بين الدين والسياسة، وهذه الحرب المعلنة على العقل والحرية، وهذه الوصاية المضروبة على المواطنين لا يفكرون إلا بفتوي، ولا ينطقون إلا بإذن، وهذا الاتجار بالدين.. هذا كله عرفه الأوروبيون فى عصورهم المظلمة كما نعرفه نحن الآن.
الكنيسة الكاثوليكية فى أوروبا لم تكن مجرد مؤسسة دينية، وإنما كانت إلى جانب ذلك مؤسسة سياسية واقتصادية. كانت سلطة كاملة أو بالأحرى كانت دولة إلى جانب الدولة وأحيانا فوقها. لأنها بعقيدتها التى تجعل البابا نائبا عن الله فى الأرض، وبتنظيمها الهرمى المحكم: كرادلة ينتخبون البابا، ومن بعدهم أساقفة، وبعد هؤلاء كهان ورهبان تتشكل منهم غرف تتولى الشئون السياسية والإدارية والمالية. تزرع أراضى الكنيسة وهى مساحات شاسعة مترامية، وتفرض الضرائب وتحصلها مستخدمة فى ذلك ما تملكه من أسلحة توجه بها رعاياها وتساعدهم وتنزل اللعنات عليهم فالكنيسة هى وحدها صاحبة الحق. تحكم الجميع، وتتصرف فى كل شئونهم أفرادا وجماعات، ولا وجود فى الواقع اليومى إلا لها، برج الكنيسة هو أعلى مكان فى القرية أو المدينة الأوروبية. وصوت جرس الكنيسة هو أعلى صوت. وفيما ذكره بعض المؤرخين عن عدد الكنائس فى انجلترا أن كل أربعين منزلا كان لها كنيسة ـ نحن فى هذه الناحية نشبه الإنجليز وربما تفوقنا عليهم! لكن الكنائس الانجليزية التى كانت تزدحم بالمصلين فى العصور الوسطى لم تعد كذلك الآن. لأن الدين فى حياة الإنجليز والأوروبيين عامة لم يعد سياسة ولا اقتصادا وإنما اكتفى بمكانه الأثير الذى لا يشاركه فيه غيره وهو قلب الإنسان.
فى ضوء ما تقدم نستطيع أن نعرف مكاننا فى التاريخ ومكان الأوروبيين. وهى مقارنة يستنكرها المتاجرون بالدين عندنا ويواجهونها بشعار الخصوصية الذى يجعلوننا به جنسا آخر مختلفا عن بقية البشر لا نتقدم كما يتقدمون ولا نتحرر كما يتحررون ولا نتطور كما يتطورون. وتحت شعار الخصوصية يبررون كل الأمراض التى ابتلينا بها ويحولونها إلى مزايا وخصائص. خلط الدين بالدولة، والطغيان السياسي، والتفكير الخرافي، واستعباد المرأة وتحوينها ـ أى تحويلها إلى حيوان لا وظيفة له إلا إمتاع الرجل ـ جاهلين أو متجاهلين أن الأوروبيين وغيرهم من البشر أصيبوا بهذه الأمراض وعاشوا بها قرونا وقرونا لكنهم اكتشفوا الدواء ونالوا الشفاء ونهضوا نهضتهم التى أصبحت تراثا إنسانيا وخبرة بشرية استفادت منها كل الأمم التى تقدمت فى الشرق والغرب والشمال والجنوب.
والذين يجعلون الخصوصية طريقا للعزلة ويعتبرون الفصل بين الدين والسياسة تقليدا للأوروبيين وخروجا على الإسلام لأن الإسلام فى نظرهم دين ودولة، ولأن المسيحية دين فقط، هؤلاء يخلطون فى الإسلام بين الدين والتاريخ. فالدولة ليست ركنا من أركان الإسلام وإنما هى نظام فرضته على الإسلام ظروف البلاد التى ظهر فيها ولم تكن فيها دولة أو سلطة يعيش فى ظلها المسلمون الذين صاروا مجتمعا متجانسا يحتاج لمن ينظمه ويرعاه، وهذا ما قام به الرسول فى حياته وقام به من بعده خلفاؤه الذين غيروا وأضافوا لكنهم ظلوا يجمعون بين الرئاسة السياسية والإمامة الدينية، لا لأن الجمع بينهما كان فرضا دينيا، ولا لأن الظروف التى نشأ فيها الإسلام فى الجزيرة العربية ظلت كما هى فى البلاد التى دخلها وانتشر فيها، ولكن لأن الجمع بين السلطتين السياسية والدينية والانفراد بهما كان أساسا فى نظم العصور الوسطى وفى امبراطورياتها الاسلامية والمسيحية.
والذين يتاجرون بالإسلام فى هذه الأيام ويطالبون بتطبيق الشريعة ويرفضون الفصل بين الدين والسياسة لأن الإسلام ليس دينا فقط كالمسيحية وإنما هو فى زعمهم دين ودولة ـ هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون. ولو أنهم رجعوا إلى تاريخ الفكر السياسى لرأوا أن تطبيق الشريعة المسيحية كان شعارا مرفوعا قبل ألف عام وكان موضوعا لصراع قام آنذاك بين الحكام الأوربيين ورجال الكنيسة الذين كانوا يتولون القضاء فى العصور الوسطي. وكانوا يحكمون فى القضايا المدنية والجنائية، فضلا عن قضايا الزواج والطلاق والميراث. وهذا ما وجد فى بعض الدول التى استطاع حكامها أن يقاوموا طغيان الكنيسة، من يعترض عليه ويطالب بإحلال القوانين الوضعية محل القوانين الكنسية التى انبرى أحد الأساقفة للدفاع عنها فى القرن التاسع الميلادى فقال:
«دعهم يحموا أنفسهم إن استطاعوا بسياج من القوانين الوضعية أو التقاليد البشرية. ولكن عليهم أن يعلموا لو كانوا مسيحيين أنهم لن يحاسبوا على أعمالهم يوم الدين بالقانون الرومانى أو بغيره من القوانين الوضعية وإنما بالقوانين الإلهية المقدسة. ففى الدولة المسيحية يجب أن تكون القوانين مسيحية، أى قوانين تتمشى مع تعاليم الدين المسيحي».
أليس هذا الذى قاله هنكمار رئيس الأساقفة فى الامبراطورية الرومانية المقدسة فى القرن التاسع الميلادى هو ما قاله سيد قطب فى القرن العشرين وهو يطعن هو ومن تبعه فى الديمقراطية ويعتبرها جاهلية جديدة ويبشر بالحاكمية، أى بالدكتاتورية الدينية التى يكون فيها أمثال أبو بكر البغدادى نوابا عن الله يحكمون باسمه وينفردون بكل السلطات؟
والحقيقة أن وجوه الاتفاق بين ما يحدث عندنا فى هذه الأيام على أيدى جماعات الإسلام السياسى صوما كان يحدث فى أوروبا خلال العصور الوسطى أكثر من أن يحصى فى مقالة واحدة فإلى اللقاء فى الأربعاء القادم.