الوطن
عبد العظيم درويش
دروس لـ«شباب مصر الأشقاء»..!
بداية فإن العنوان الذى يتصدر هذه السطور مشتق من التعبير الشهير «الشعب المصرى الشقيق» الذى نحته الكاتب الصحفى نصر القفاص بجريدة الأهرام.. ولنتفق بعد ذلك على مبدأين: الأول: أن السطور التالية ليست جلداً للذات أو محاولة لحشو الجراح بـ«الملح» بل صدمة لكى نفيق مما نحن فيه.. والثانى: أن لكل مشكلة حلين أحدهما «سهل» دائماً ما نلجأ إليه، وهو إنكار هذه المشكلة كليةً «وكلنا نعلم مدى ما نرتكبه من جرائم لنا وللأجيال التالية إذا ما لجأنا لهذا الحل».. والآخر هو الاعتراف به باعتباره بداية الحل وهو نادراً ما نلجأ إليه إلا فى «أضيق الحدود»..!

ما يدفعنى إلى كتابة هذه السطور هى تلك الظاهرة التى عادت مجدداً بعد أن كانت قد غابت نحو 13 عاماً كاملاً ولنبدأها:

بابتسامة بلاستيكية تنزلق من بين شفتيه اللتين تكشفان عن أسنان يختلط فيهما اللون الأصفر بالأسود نتيجة تراكم نيكوتين التدخين ينحنى أمامك ليسألك بنبرة صوت يحاول إكسابها نوعاً من البهجة‏: ‏

حضرتك أخذت هديتك منا اليوم؟‏!‏

مواطنو القاهرة أو المدن الكبرى اعتادوا سماع هذه العبارة من شاب أثناء خروجهم من سوبر ماركت أو أحد المولات التجارية أو فى محطات البنزين‏، ‏ أو على بوابات الخروج إلى الطرق السريعة‏!‏

العبارة السابقة هى «كلمة السر» التى يهمس بها الشاب أمام الزبون ليجذبه ليبدأ بعدها فى عرض هذه الهدية.. فإذا كنت أمام «سوبر ماركت أو أحد المولات التجارية» فالهدية فى هذه الحالة هى «بون» مجانى بقيمة المشتريات التى تحملها.. وإذا كنت خارجاً من بوابات القاهرة فالهدية تكون عبارة عن بون بنزين مجانى بملء «التانك» مهما كان نوع هذا البنزين.. وفى أحيان أخرى يبدأ فى عرض إما منتج لإحدى شركات الشامبو والصابون أو غيرهما من المنتجات أو ليسرد مميزات الاشتراك فى نظام التايم شير مع الشركة التى يمثلها ليطلب بعدها مبلغاً من المال مقابل ما حصلت عليه بالفعل من منتج أو نظير اشتراكك فى حفل الاستقبال الذى تنظمه الشركة فى الموعد الذى تحدده أنت بنفسك‏!!‏ مع وعد برد قيمة هذا المبلغ فور وصولك إلى مقر حفل الاستقبال المزعوم‏!!‏

وبعد أن «ينزلق الزبون» يكتشف أنه أصبح ضحية لإحدى حيل النصب من جانب البعض الذى يحرص على اختيار شباب من الخريجين لاجتذاب الضحايا من المواطنين نظير عمولة يتقاضاها الشاب عن كل ضحية يوقع بها‏!!‏

عملية النصب هذه تمثل بالفعل نموذجاً لاستغلال ثلاثى الأطراف، فمن جانبه ارتضى الشاب أن يتم استغلاله هروباً من غول البطالة‏.. والمواطن يريد أى هدايا مجانية، فيكفيه ما يتحمله من معاناة فى مواجهة الأسعار‏.. وصاحب الشركة يأمل فى تحقيق أقصى ربح بأى شكل وبأقل تكلفة ولتذهب القيم والمبادئ والمثل إلى الجحيم‏!!‏

يبدو أن «غول البطالة» الذى ينهش شباب الخريجين أو حالة الإحباط والاغتراب التى يعانى منها الشباب لا تكفى وحدها‏، ‏ فأراد البعض استثمار هذه الظروف لتعليم الشباب فن الاحتيال والنصب أو تلقينه مهارات التسول‏!! ‏

ولنعد إلى بداية السطور.. إذ يبدو أن قطاعاً عريضاً من شبابنا قد اكتفى بالشكوى مما يعانيه بسبب البطالة، وهو «الحل السهل» أما «الحل الأسهل» فيتلخص فى حتمية الاعتراف بأنه هو نفسه أحد أسباب هذه المشكلة، إذ إن هذا القطاع العريض من الشباب لا يزال يركن إلى «التواكل» فهو ينتظر أن تقدم الدولة على تقديم عمل له على طبق من ذهب دون أن يحرك ساكناً لمواجهة هذا «الغول».. الجلوس فى المقاهى أو «الكوفى شوب» دون أن يفكر فى العمل بأى مهنة ولو بصورة مؤقتة، عملاً بمبدأ «حب ما تعمل حتى تعمل ما تحب»!.. وفى أسوأ الأحوال يندفع بعض الشباب ممن أنهكتهم «البطالة» إلى تقديم نفسه طواعية كـ«وليمة» لأسماك البحر المتوسط، بهدف إبدال حالة الاغتراب الحقيقى بحالة الاغتراب الداخلى الذى يعانيه، بل ويدفع أهله -فى الأغلب الأعم- إلى بيع كل ما يملكونه لتدبير آلاف الجنيهات ليسددها إلى «سمسار» للهجرة غير الشرعية لييسر له «الغرق فى أعماق المتوسط»، بينما لو تمهل قليلاً وأعمل التفكير للحظات لأمكنه البدء فى مشروع صغير بالمبلغ الذى توافر له دون أن يقدم على الانتحار..!

وفى الوقت الذى يركن فيه «الشاب» إلى الراحة والتواكل انتظاراً لتقدم له الدولة فرصة عمل وفقاً لما اعتدناه خلال فترة الستينات والسبعينات -على الرغم من أنها ليست فى حاجة إليه إذ إنه سينضم إلى طابور «المعينين العاطلين»- فإن المقبل إلى القاهرة وتحديداً إلى ضواحيها القريبة ستلفت نظره ظاهرة إيجابية تتمثل فى أن شباباً وكباراً من «سوريا»، يعدون بالمئات إن لم يكن بالآلاف، قد تغلبوا على هذه الظاهرة «التواكل» ولم يستسلموا لظروف بلدهم القاسية للغاية وبدأوا فى اقتحام «سوق العمل» بكل حيوية.. ففى «المطاعم أو الكافتيريات» ستجدهم يعملون بكل نشاط.. حتى الفتيات والأطفال ستجدهم يعرضون عليك «منتجات منزلية» من صنع السيدات تكون فى العادة «حلوى» جرى تصنيعها بالمنزل.. واللافت للنظر أن أياً من هؤلاء المجدين لا يقبل أن تقدم له أى مساعدة مالية دون أن تأخذ مقابل ما سددته «نحن نبيع ولا نتسول».. هكذا يكون الرد!!.. وإذا صادفتك مشكلة منزلية واحتجت سباكاً أو كهربائياً فربما تجد أحدهم كان يعمل فى سوريا طبيباً للأطفال أو محامياً شهيراً ولم يستسلم إلى ظروف بلده القاسية..!

اللافت أيضاً أن فى معظم محلات السوبر ماركت ستجد منتجات سورية متنوعة، أى إنه لا يزال هناك من السوريين من يزرع ويحصد ويُصنّع ويصدر على الرغم من هذه الحرب المدمرة التى تجرى هناك.. فهل سنرى قريباً من يرفض التواكل ويبدأ فى العمل والإنتاج من «شباب مصر الأشقاء».. ؟!.. ولك يا مصر دوماً السلامة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف