الأهرام
د.محمد مختار جمعه
بناء الأفراد والدول
مهمة البناء مهمة شاقة تتطلب جهودًا مضنية، ولا سيما لو كان البناء على أنقاض دول عاتية، ويراد لها أن تكون شابة عفية قوية، ذلك أن الزمن لا يرجع إلى الوراء، فأنت حينئذ تنحت الصخر، وتفعل ما يشبه المستحيل حتى تنطلق إلى مصاف الدول الراقية والشعوب المتقدمة، بل إن الأمر يتطلب كفاحًا مريرًا ومضاعفًا للتخلص من آثار الركود والعتو، والانطلاق نحو آفاق أرحب وأوسع. والمهمة تبدأ ببناء الإنسان مما يتطلب منظومة: تعليمية، وثقافية، صحية، وسلوكية، وأخلاقية، وتربوية، وإنسانية، وحضارية، خلاقة وغير تقليدية، سواء على مستوى بناء الفرد أم على مستوى المؤسسات، أم على مستوى الدول. والأمر ليس مجرد فسحة أو نزهة، إنما يحتاج إلى بذل وتضحية، وصبر ويقين، حيث يقول الحق سبحانه: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» (السجدة : 24)، ويقول سبحانه: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (آل عمران:142)، ويقول سبحانه:«أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ »(البقرة: 214).

بناء الأفراد والأمم لا يكون بالكلام ولا بالأماني ولا بالأحلام، إنما يكون بالعلم والعمل، والبذل والعطاء والتعاون والوعي والقدرة على التضحيات، فالأمم التي لا تملك ولا تنتج قوتها، وغذاءها، وكساءها، ودواءها، وسلاحها، لا تملك أمرها، ولا إرادتها، ولا كلمتها، ولا عزتها، ولا كرامتها، وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم قد قال: «اليدُ العُليا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى». وكان الإمام علي رضي الله عنه يقول: لحملُ الصــخر من قمم الجبــــال .. أَحَــــبُّ إِلَيَّ مِـــنْ مِنَنِ الرَّجَــالِ. يَقُولُ النَّاسُ لي في الكسْبِ عيب .. فقلـــت العيب في ذل الســــــــؤال.

ومن أهم المقومات التي تبنى عليها الدول الراقية المتحضرة القيم الأخلاقية والسلوكية والإنسانية والحضارية، فالأمم والحضارات التي لا تبنى على القيم والأخلاق أمم هشة وحضارات أكثر هشاشة، بل إنها لتحمل عوامل سقوطها في أصل بنائها وعوامل قيامها، يقول الشاعر: إنمــــــا الأمم الأخلاق ما بقيــت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا. ويقول الآخر: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقـــــم عليهم مأتمًا وعـــــــويلاً.

وقد قالوا: إن الله عز وجل ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، لأنها لو كانت مسلمة حقًا لما رضيت بالظلم أو قامت عليه، ولذا قالوا أيضًا:إن الدول قد تدوم مع الكفر والعدل، ولا تدوم مع الإسلام والظلم، لأن تدينها حينئذ سيكون تدينًا شكليًّا، لا يعي مفهوم الإسلام ولا مضامينه السامية القائمة على الحق والعدل ورفض الظلم والبغي بكل ألوانهما وأشكالهما.

تبنى الأمم باستغلال كل إمكاناتها المتاحة، واستثمار كل طاقاتها المعطلة وغير المعطلة وتبنى الأمم بوحدة الصف، ونبذ كل ألوان الفرقة، والخلاف، والشقاق، والطائفية، والمذهبية، وسائر النعرات القبلية، حيث يقول الحق سبحانه: «وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» (الأنفال: 45)، وحيث يقول سبحانه: «وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (أل عمران: 105). وتبنى الأمم بوحدة الصف والعزيمة والإرادة والصمود، والقدرة على التحدي والإنجاز، وقد عرف الشعب المصري عبر تاريخه الطويل بهذه السمات كلها، وقد آن الأوان لكي نعمل معًا على استعادة هذا التاريخ المجيد، ووضع لبنات جديدة لا لبنة واحدة في بنائه الشامخ، لا نقول كمن قال: كان أبي، ولكن نقول: ها نحن ذا، خدمة لديننا ووطننا وجيلنا ومستقبل أبنائنا، مؤمنين أن مصر تستحق منا ذلك وأكثر، كونها القلب النابض والحصن الحصين للعروبة والإسلام «وما ذلك على الله بعزيز».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف