المصرى اليوم
يوسف زيدان
موانع التقدم: الهجرة
للهجرة معان متعددة، لكنها تدور كلها حول محور المكان أو بالأحرى كون المكان محلاً للاستقرار، وهو المسمى «الوطن» أو كونه محلاً لأحد الموضعين والموضوعين المتناقضين: الطرد، الجذب.. فلا هجرة إلا من مكان طارد، ولا هجرة إلا لمكان جاذب. وقد يكون الموضع منطقة أو ناحية أو بلداً كبيراً، لكنه وبصرف النظر عن مساحته وطبيعته صار موضع طرد يهاجر منه، أو موضع جذب يهاجر إليه.

ولمواضع الطرد سمات سلبية تتصف بها، منها: الجدب، الكآبة، استحالة العيش، الكوارث الطبيعية، الاستبداد السلطوى، وقوع المآسى العامة والخاصة.. وبالعكس من ذلك، وليس على النقيض منه، تكون مواضع الجذب! إذ ليس من شروطها أن تكون الحياة فيها رغدة ومبهجة، وإنما يكفى أن تكون فيها الحياة محتملة، وممكنة.

وهناك أشكال عديدة للهجرة، منها من حيث الامتداد الزمنى: الهجرة الدائمة، الهجرة المؤقتة. أو بعبارة أخرى: الهجرة بلا نية فى العودة، الهجرة إلى حين.. وبالطبع لا تدخل فى ذلك الزيارات والرحلات والعمرات «كلمة عمرة تعنى فى فصيح اللغة: زيارة مكان أو التردد إليه».

ومن حيث العدد، فهناك هجرات جماعية وأخرى فردية، وكلتاهما كثيراً ما حدثت فى الماضى وتحدث فى الحاضر المعاصر، فمن الهجرات الجماعية القديمة، الشهيرة: نزوح العرب من اليمن إلى النواحى الشمالية «الشام، العراق» عقب انهيار سد مأرب فى حدود سنة ألف قبل الميلاد، وهروب الأرمن من بطش الأتراك الغشوم، ونزوح السوريين الهاربين من بلدهم إلى أوروبا لأن البلاد المجاورة ليست وطنهم المزعوم الذى كانوا يكذبون علينا فى الصغر قائلين: بلاد العرب أوطانى! وليست على دينهم لأن الإسلام النفطى غير إسلام الفقراء، وإسلام السنة الوهابية ليس كإسلام الشيعة الاثنى عشرية.. ورفع راية الإسلام فى بلد لا يعنى فعلاً استمساك حكامه به، وإنما هى حيلة معتادة لخداع العوام والجهلاء من أهل هذا البلد أو ذاك.

وفى المقابل من الهجرات الجماعية وعمليات النزوح، هناك هجرات فردية يقوم بها فى الغالب أشخاص متميزون كالنابغين فى العلوم والفنون حين تضيق بهم أوطانهم، أو كهؤلاء الحالمين الذين لا يرحب الواقع بطموحاتهم.

■ ■ ■

وبالإضافة لما سبق، هناك الهجرة الفعلية والهجرة بالنية، وهو ما تناولته فى مقالة قصيرة نشرتها قبل اثنتى عشرة سنة، وقلت فيها: أصابنى فزع حين علمت أن معظم الشباب الأقباط، إناثاً وذكوراً، من سن العشرين إلى الخامسة والثلاثين «تقريباً» تقدموا بطلبات هجرة إلى كندا وأمريكا وأوروبا وإستراليا، بل يقال إنه لا يوجد شاب قبطى أو شابة، خصوصاً خريجى الجامعات، إلا وقد تقدم بطلب هجرة واحد على الأقل! وكثير منهم يتقدمون بأكثر من طلب إلى أكثر من جهة. ولا يقتصر الأمر على شباب الأقباط، فإن كثيرين من أقرانهم المسلمين يتدافعون أيضاً لتقديم هذه الطلبات أو الالتماسات، للجهات المعنية مثل السفارات وإدارات الهجرة ومكاتب «القرعة» التى يسمونها اليوم: اللوتارى.

ولفزعى من هذا الأمر أسباب، أولها ما يرتبط بالهجرة من مفاهيم موحشة مثل الهجر والهجران والهجير والمهجور، وهى مفاهيم استبدت بنفوس مقدمى هذه الطلبات ثم دفعتهم لتقديمها أملاً فى الخلاص من أمور تحيط بهم. وهى أمور لم يهتم أحد منا ببحثها بشكل جاد، وقعودنا عن العناية بأمر كهذا، سبب قوى لإثارة الفزع.

وسبب آخر، خطير، هو أن الملايين ممن ينوون الهجرة، يكونون قد هاجروا نفسياً لحظة تقديمهم الطلب، وهجروا الوطن على المستوى الشعورى. ويظل حالهم على هذا، حتى لو ظلوا سنوات ينتظرون الإشارة بالرحيل. فتكون النتيجة الفعلية أننا نعيش فى بلد فيه ملايين المهاجرين بالنية، أو المهاجرين المؤجلة هجرتهم، أو الذين رحلوا عن هنا بأرواحهم ولاتزال أبدانهم تتحرك وسط الجموع كأبدان الموتى الذين فقدوا روحهم ولم يبق لديهم إلا الحلم الباهت بالرحيل النهائى.

■ ■ ■

وبعيداً عن هذه التمهيدات النظرية، ومن بعدها، نقول إن الهجرة هى معيار عملى يمكن الحكم به على حال المجتمعات من حيث التحضر أو التدهور، والتقدم أو السقوط. إذ إن مواطن الطرد هى بالقطع مواضع تشهد انهياراً وتدهوراً وسقوطاً. وبقدر قوة دفعها ومقدار طردها لأهلها، يكون مقدار تدهورها وقوته، وفى المقابل فإن قوة جذب المكان دليل على معدل تطوره وسرعة تقدمه وتحضره، فكلما كان هذا المعدل أسرع كان المكان أكثر جذباً وأشد جاذبية للمهاجرين.. لاسيما الذين كانت هجرتهم مستديمة وأبدية، كما هو الحال فى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية «بل منذ بداية القرن العشرين» وفى أستراليا وكندا، وغيرهما فى العقود الأخيرة.

وفى النصف الأول من القرن العشرين، كانت مصر تخطو خطوات واسعة نحو التحضر والتقدم فى كافة المجالات الحياتية. فمن عناية «جادة» بالتعليم «الجاد» إلى ارتقاء معمارى وفنى وفكرى، إلى واقع سياسى يسرع الخطى نحو الملكية الدستورية الوقورة، إلى اقتصاد متماسك ينعكس فى قوة الجنيه المصرى وفى اعتقاد عوام الناس أنه لا أحد يموت من الجوع، مع أن المجاعات كانت دوماً، وسوف تظل أبداً، تميت كثيراً من الناس.. وفى تلك الفترة، كانت مصر منطقة جذب للمهاجرين من الشوام والأرمن واليونان والإيطاليين، وغيرهم، بل إن بعضهم كان يأتى فى زيارة لمصر أو عمل، فيهواها ويستقر بها حتى وفاته. ومن الأمثلة المشهورة على ذلك المعمارى الإيطالى المبدع «ماريو روسى» والمستشرق الألمانى الكبير «ماكس ميرهوف» والباحث المرموق «باول كراوس» وفقيه العقائد الفرنسى «رينى جينون» الذى جاء لمصر سنة 1930 فى زيارة لجمع مصادر تتعلق بدراسته للتصوف، فإذا به يرفض مغادرتها ويسكنها ويتزوج مصرية، ويعلن إسلامه، مختاراً لنفسه اسم عبدالواحد يحيى.. ومن رحمة الله به، أنه مات سنة 1951 فلم ير وجوه «الأحرار جداً» ويشهد ما فعلوه بالعباد والبلاد. «كتب عنه د. عبدالحليم محمود، فصلاً بديعاً فى كتابه: المدرسة الشاذلية».

وخلال السنوات القليلة الممتدة من منتصف القرن العشرين إلی عام 1960 تحولت مصر التى كانت رائدة الفكر والتحضر فى المنطقة العربية، من النقيض إلى النقيض.. فصارت منطقة طرد وتهجير الأجانب «للاستيلاء على ما يملكون ولليهود، لأنهم الأعداء الذين وقع عليهم اختيار الساسة الحاكمين الذين سلموهم «الفالوجا» ثم تراجعوا أمامهم منهزمين فاتسعت دولة إسرائيل حتى شملت سيناء والجولان والضفة! والمضحك المبكى، أن الأحرار جداً حين سلبوا يهود مصر أموالهم ومالهم «مع ما سلبوه من أثرياء المصريين» حافظوا على المسميات العبرية لممتلكاتهم، فصارت شركة المنتجات المصرية: بنزايون، عدس، ريفولى.. وكانوا يكتبون فى اللافتات العريضة «بنزايون» من دون أن يدركوا بجهلهم الفاضح أنها تعنى: ابن صهيون.

وأعقب ذلك، منذ نهايات الخمسينيات، مغامرات عسكرية لإلهاء الناس بالداخل. على غرار «تأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية»، وذلك قبل سنوات قليلة من انتهاء عقد امتياز القناة وعودتها سلمياً إلى ملكية مصر، فقامت الحرب العبثية.. وبالمناسبة، حصلت الشركة الفرنسية على حكم دولى بتغريم مصر «عشرة ملايين جنيه، مصرى» وتسلمته واستثمرت فى مجال الغاز والطاقة، وهى اليوم تمد فرنسا بالغاز تحت اسم «سويس فرانس جاس» وهى الشركة التى بلغت ميزانيتها سنة 2007 اثنين وخمسين مليون يورو.

وكان من تلك المغامرات العسكرية، حرب اليمن «التعيس» التى أودت بحياة عشرات الآلاف من الجنود المصريين، الذين لا يوجد إحصاء دقيق بعددهم الذى تتراوح تقديراته ما بين أربعة عشر وسبعين ألف جندى مصرى.. والله وحده يعلم عدد ضحايانا المصريين والضحايا اليمنيين، بدقة، لكننا نعلم جميعاً أن نتيجة هذه الحرب كانت: عبدالله السلال، الذى ورثه بالانقلاب عليه عبدالله صالح.

ولما وقعت الفاجعة الكبرى بسبب تمركز القوات المسلحة المصرية على جزيرتى تيران وصنافير، وإغلاق البحر الأحمر أمام سفن إسرائيل، فقامت الحرب ولم يصدق قول القائل: سنلقى بإسرائيل ومن وراء إسرائيل فى البحر! وإنما لحقت بالبلاد هزيمة 1967 الفادحة، المسماة عندنا تخفيفاً وخداعاً للعوام «النكسة».

وتقطعت صلات مصر بالعالم المتقدم، وجرى التراجع الحضارى وتزايد التدهور فى المجالات جميعها. فنشطت بل تسارعت عمليات الهجاج المصرى إلى خارج البلاد، متمثلة فى هجرات نهائية دائمة إلى الدول الأوروبية، وفى الهجرات الحولية المتكررة إلى بلاد النفط لجلب فتات المال الممزوج بالفكر الوهابى، فظهرت الجماعات المتطرفة وسكنت العشوائيات التى تكاثرت بالبلاد.

وفى فترة التدهور الحضارى التى امتدت بمصر عقوداً من الزمان بدأت سنة 1952 ولن تنتهى فى المدى المنظور، ظهرت صورة أخرى من صور الهجرة هى التهجير القسرى: مدن القناة، من أجل الحرب.. والنوبة من أجل السد العالى وبحيرة ناصر «ناصر يا حرية، ناصر يا وطنية، يا روح الأمة العربية، يا ناصر! صورة صورة صورة، كلنا كده عايزين صورة، صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة»، وكانت الهزائم تتوالى عسكرية وحضارية، ونحن نغنى للانتصارات الخيالية. واليوم، لم يعد التهجير القسرى مستغرباً لأنه صار كثير الحدوث. فكلما نشب خلاف بين المسلمين المتعصبين والأقباط المستكينين بها، كان أسرع الحلول: تهجير الأسر القبطية!

وعلى هذا النحو صارت مصر منطقة طاردة لأهلها، وصار حلم معظم المصريين هو الهجرة التامة النهائية إلى أوروبا أو أمريكا أو كندا أو أستراليا، والهجرة الحولية التى تمتد سنوات وصلت إلى الثلاثين عند بعض المحظوظين الذين حصلوا على عقود عبودية مؤقتة، مختارة، لدى الأشقاء النفطيين.

■ ■ ■

«لا يُهاجر إلا القادر».. كدت أجعل هذه العبارة هى عنوان تلك المقالة، ثم رأيت أن أترك العنوان محايداً. والحياد عند الحب والحسرة عسير. ولشرح هذه العبارة أقول: إذا كانت هناك أسرة متعددة الأجيال، مكونة من جد وجدة وأولادهم الأربعة وزوجاتهم وأطفالهم الأحفاد، فكان الأربعة «جيل الوسط» متعلم، وجاهل، وقوى، وضعيف. فمن من هؤلاء لديه الفرصة الأوفر للهجرة؟ طبعاً، المتعلم والقوى لأن كليهما قادر على العطاء فى منطقة الجذب التى يهاجر إليها. وهذا يعنى أن الباقين بمنطقة الطرد هم: الشيخ الفانى، العجوز التى فى الغابرين، النسوة اللواتى لا حيلة لهن، الأطفال.. فمن من هؤلاء يمكنه العمل لرفع مستوى منطقة الطرد؟ منطقة البؤس والتدهور الذى لا يبشر أبداً بخير أو تطور حقيقى؟!

ودون هذا التخييل والتمثيل، نقول: كيف كان من الممكن لمصر تحريك عجلات التقدم قدماً، ودفعها إلى مصاف الأمم المحترمة فى العالم، إلا بتلك الطاقات البشرية التى هاجرت فأعطت ثمرة جهدها فى منطقة الجذب؟ ومع غياب هؤلاء بالهجرة، وبعد أن طردت العملة الرديئة الجيدة، بقى فى البلاد الأقل عطاءً وعلماً وقدرة على الارتقاء. فانتشر الجهل ونُشرت رايات التأخر وتفرقت بالناس السبل المتناقضة، فمن اجتياح للتدين الشكلى الكاذب إلى عهر رقيع فاجر، ومن جماعات متطرفة إلى مواخير ليلية صاخبة، ومن قبح فى هيئة الأشخاص إلى تشويه فى المبانى الخالية من أى فن معمارى، ومن تعليم يتدهور إلى شعب ينفق على العمرة والحج مبلغاً يزيد على الميزانية العامة للتعليم، ومن اختفاء للذوق الرفيع والآداب العامة واحترام الفكر إلى فنون هابطة هبوط الماشية وقعودها على الأرض السبخة، ومن لحى وجلابيب تطول إلى جهل يصول ويجول.

ومن منفى، إلى منفى

ولمن لم يفهم المعنى

نقول ما قال المعنَّى شى

محمود درويش:

ليس لى منفى،

لأقول لى وطن

الله يا زمن

الله يا زمن

■ ■ ■

وبدلاً من اتخاذ التدابير لإيقاف نزيف الهجرة الذى أخرج من مصر عشرة ملايين شخص، هم الأمهر والأقوى والأعلى تعليماً، أنشأنا فى مصر وزارة للهجرة! باعتبارها أمراً مناسباً للحاكمين.. فهؤلاء المهاجرون يجلبون المال للبلاد، ولا يستهلكون شيئاً! وهى وجهة نظر قاصرة تفتقد أدنى شروط التخطيط للمستقبل، على المستويين القريب والبعيد.

وكما أشرنا مراراً فى المقالات السابقة، فإن موانع التقدم وعناصر التأخر تتآزر فيما بينها وتتساند وتتفاعل تفاعلات داخلية لا حصر لها.. تماماً. مثلما تتآزر وتتساند وتتفاعل العوامل والعناصر المؤدية إلى التحضر والنهوض بالمجتمعات. ومن هنا نلمح العلاقة الخفية بين الهجرة والواحدية والشعور باللاجدوى والنزاع المذهبى.. وغيرها من موانع التقدم التى سوف نتوقف عندها فى المقالات المقبلة من هذه السلسلة التى أرجو أن تتم على خير، وتؤدى إلى خير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف