الأهرام
نبيل عمر
حكاية الضمير الذى اختفى فجأة
لو فرضنا مثلا أننا جمعنا مليون مصري، خليطا من هؤلاء الذين لا يحترمون القانون، المدمنين على الغش فى الصناعة والتجارة، المهملين فى أعمالهم، الرافضين لآراء الآخرين، السلبيين فى سلوكياتهم، أخذناهم «بربطة المعلم»، و«شحناهم» على اليابان أو الولايات المتحدة أو ألمانيا أو كوريا الجنوبية أو الصين، ليعملوا ويعيشوا داخل هذه المجتمعات، وذهبنا إليهم بعد عام لنتابع أحوالهم وتصرفاتهم..فماذا نجد؟

استميحكم عذرا، وسامحونى على سؤالى الغبي، فلا أصل له من الإعراب، لأن إجابته سهلة ومتاحة كل يوم، فى أمريكا وأوروبا وكل الدول التى هاجر إليها ما يقرب من عشرة ملايين مصري، فهم يلتزمون بالقانون إلا قليلا، ولا يغشون ولا يفكر أى منهم فى الزوغان من عمله، ويحترمون آراء الآخرين وحرياتهم، ولا تعرف السلبية إليهم طريقا..إلخ.

نعم المسألة محيرة فعلا، كيف نتصرف نحن فى بلادنا على نحو يزهقنا من عيشتنا ونتصرف بكل أخلاق وضمير فى المجتمعات التى نهاجر إليها مؤقتا أو دائما؟

هل يملك مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء تفسيرا علميا لهذا التناقض، تفسير يستند إلى حقائق اقتصادية واجتماعية وسياسية وليس إلى انطباعات سطحية؟

وسبب سؤالى هو استطلاع رأى نشره المركز قبل أيام عن ( رأى المصريين فى بعض سلوكيات المجتمع المصري)، رصد فيه إن الغش زاد والفهلوة سادت والشائعات كثرت والشهامة تناقصت واحترام القانون تراجع وإتقان العمل يكاد يختفي.. باختصار «أخلاق الناس باظت والضمير فى أزمة».

وأتصور أن ما رصده مركز معلومات مجلس الوزراء ليس جديدا، هو كلام مكرر ومعاد منذ سنوات، ربما زات نسبة التشوهات، دون أن يتطوع بتفسيرات وتحليلات وأسباب، كما لو أن الناس استيقظت فجأة ليجدوا «أخلاقهم» قد سرقت منهم أو اختفت فى عتمة الليل البهيم.

ويبدو أن هذا الاستطلاع يحاول أن يقول للناس: لا حل أمامكم إلا باسترداد أخلاقكم وضمائركم. وطبعا لم يشرح لهم كيف تسترد الشعوب أخلاقها الضائعة.

هذا الاستطلاع أعادنى إلى حوار قديم مع أصدقاء أغلبهم رجال أعمال ومسئولون كبار كان بعضهم وزراء سابقين قالوا: النجاح (العام) فى مصر صعب جدا، لأننا لم نواجه أنفسنا بالحقيقة المرة، وهى «أزمة الضمير».. فى بلاد برة عندهم ضمير، كل واحد يؤدى شغله لوحده، منظومة «مدنية» علمتهم القيم، اعملوا ألف ثورة، شيلوا مبارك، شيلوا ألف حاكم ولا شيء سوف يتغير..المواطن المرتشى ..من يرمى الزبالة فى الشارع..من يعطل مصالح الناس..المدرس الذى لا يشرح فى الفصل..المهندس الذى يضرب تصاريح بناء مُخالف..الطبيب الذى يهمل مرضاه فى مستشفى الحكومة من أجل عيادته الخاصة..التاجر محتكر السلع..كل هؤلاء مواطنون عاديون.. أسهل حاجة أن نشتم الحكومة، هل فيه دولة فى العالم لا يحترم فيها المواطن القانون والنظام ونجحت؟

«مشكلتنا فى الشعب، اتهام الحكومة الدائم بالتقصير مثل ابن يقول لأبيه: بابا لماذا لا نسكن فى فيلا ولا عندنا عربية فاخرة ولا شاليه فى الساحل الشمالي، فيرد الأب: لا توجد فلوس لشراء ما تريد،، فيسأله الابن: وأين يذهب مرتبك؟!»

هذا الرأى السابق شائع جدا سواء كان صادرا عن مصريين عاديين أو أساتذة حاصلين على درجة الدكتوراة أو مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء، لكنه نابع عن معرفة محدودة بالعالم والتقدم وعمل النظم الحاكمة لنشاط البشر، رأى جاهل بتاريخ الحضارات ونشوئها ولا أسباب انهيارها، ولم يستوعب ما فعلته أوروبا فى عصر النهضة للتخلص من تخلفها ومشكلاتها التى كانت أكبر ألف مرة مما تعانيه مصر الآن، أو كيف صنعت اليابان تقدمها، وما هى تجربة سنغافورة فى القضاء على الفساد والبلطجة والقرصنة لتكون واحدة من أعلى الدول فى متوسط دخل الفرد سنويا.

قطعا لا ننكر أن عندنا أزمة ضمير حادة، ويكاد من يحاسب نفسه ويوجعه ضميره من المستحيلات، لكن أزمة الضمير والأخلاق عوارض مرض وليست أصل المرض، مثل أزمة التعليم والمرور والبيئة والنظافة والتوك توك والمقابر ومائة أزمة غيرها، كلها أعراض لفيروس ضرب النظام العام فأصابه بنوع من السرطان.. والناس لا تعمل فى الفضاء الخارجى ولا فى العالم السفلي، وإنما داخل نظام عام يفترض أنه يحكم ويتحكم فى كل تصرفاتهم العامة أو تصرفاتهم الخاصة التى تتقاطع أحيانا وتمس مواطنا آخر.

وحين ابتكر العالم الحكومة لم يكن بغرض أن تجلس تحت الشمس تنعم بالسلطة وتتسلى بقزقزة اللب وهرش الشعر وسماع حكايات ألف ليلة وليلة، وإنما لإدارة حياة الناس بكفاءة وفق نظام معمول به ومتفق عليه، والنظام هو مجموعة القواعد الحاكمة لنشاط الناس فى كل مناحى الحياة أيا كان هذا النشاط، فى الشارع، فى المدرسة، على البلاج، فى المصنع أو ملعب كرة، فى بناء عقار أو فتح محل جديد أو مقهى أو شركة، فى محطة كهرباء أو جمعية أهلية ، فى الزراعة والرى أو فى السفر والانتقال، فى التقاضى أو فى الحرب..الخ، فإذا التزمت هذه الحكومات بهذه القواعد بكفاءة وصرامة وانضباط وعدالة، يمضى هذا المجتمع فى طريقه الذى رسمه لنفسه من تنظيم حياته بكفاءة وتنمية مستدامة.

ولكن إذا أهملت الحكومات فى أداء واجبها فى تنفيذ القواعد الحاكمة وعلى رأسها القانون الذى يرسم حدود المسموح والممنوع، وأسرفت فى الامتيازات والاستثناءات والمحاباة، فمن المؤكد أن الناس سوف تتصرف كما تشاء وعلى هواها وينفلت عيارها، ويستغل الفرصة كل من يقدر على السير فى الطريق العكسى من أجل مصالحه الخاصة، من أول فوضى الشوارع إلى السطو على أرض الدولة، وليس مجرد الخناقة مع جاره أو عدم احترام الكبير.

إياكم أن تتصوروا أن الناس فى بلاد برة تحترم القانون وتعمل بجدية لأن عندها ضمير فقط، لا وألف لا، هم يدركون أن أى خروج على النظام والقانون له عقاب رادع دون استثناءات و«واسطات» ومحسوبيات.

الإنسان ابن نظامه العام، فإذا كان صالحا ومنضبطا وكفئا، صار كذلك، أو حدث العكس.

والنظام العام ينتج بالضرورة مجموعة القيم التى يلتزم بها الخاضعون له، فالقيم ناتج موضوعى وليست مجرد اختيار فردي، والأخلاق بما فيها الضمير جزء من القيم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف