الأهرام
عبد الرحمن سعد
شرف الشَيب
شتان الفارق بين شَيبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشَيبتنا، فنحن نشيب، ويغزو الشعر الأبيض رؤوسنا، لتصاريف الدنيا الفانية، فنقول: "شَيبتنا الحياة أو الأبناء، أو الوظيفة، أو المعاش.. إلخ".
في اللغة: "شَابَ شَيْباً، وشَيْبَةً، فهو شائب.. أي: كَبُرَ، وابيضَّ شَعرُه، وتقدَّم في السنِّ، وناهز الخمسين. يُقال للرجل: أشْيَبُ. وللمرأة: شمطاءُ. (لسان العرب).

قال تعالى: "ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً". (الروم:54). وفي ما رواه الطبراني، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " شَيّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها".

وروى الترمذي عَنْ عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ، رضي الله عنهما، قالَ: قالَ أَبُو بَكْر، رضي الله عنه: "يَا رَسُولَ الله قَدْ شِبْتَ". قالَ: "شَيّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلاَتُ، وعَمّ يَتَسَاءَلُونَ، وإِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ". (صححه الألباني).

لكن السؤال يطرح نفسه: ما الذي شيَّب الرسول، في "هود"، وتلك السور، قبل الأوان؟

وفي الإجابة، قيل إن ما شيَّبه، صلى الله عليه وسلم؛ ما ورد في "هود" وأشباهها، من تلك السور، من أهوال يوم القيامة وشدائده، وأحوال الهالكين والمعذبين فيه، من مُكذِّبي الأنبياء، وقد وصفه الله تعالى بأنه يوم: "يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً". (المزمل: 17).

وقيل إن الذي شيبه، صلى الله عليه وسلم، في سورة "هود"، قوله تعالى: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ".(112).

قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في جميع القرآن، آية أَشَدُّ، وَلا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ". (شرح النووي على مسلم).

وفسَّر ابن القيم ذلك في "مدارج السالكين"، فقال: "الذي شيَّبه، صلى الله عليه وسلم، من "هود"، هذه الآية: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ"؛ لأن الاستقامة لا تكون عن هوى، وإنما على حسب ما أُمرت، ولا يستطيع الإنسان أن يستقيم كما أُمر، إلا بعد أن يعلم بماذا أُمر، ثم بعد ذلك يستقيم عليه".

وبجانب "هود" وأخواتها المذكورات، زيد، في ما شيَّب الرسول، في روايات أخرى، سور: "الحاقة وهل أتاك حديث الغاشية والقارعة، وسأل سائل، واقتربت الساعة".

وعلى الرغم من أن المقصود من قوله، صلى الله عليه وسلم: "شيبتني" إسراع الشيب، والشعر الأبيض، إليه، إلا أن الترمذي روى من حديث أنس أنه قال: "ما عددتُ في رأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولحيته؛ إلا أربع عشرة شعرة بيضاء".(رواه أحمد وصححه الألباني).

وفي هذا قيل إنه ليس المراد بالشيب كثرة ظهور الشعر الأبيض، وإنما ظهور آثار الضعف عليه، صلى الله عليه وسلم، قبل أوان الكبر.

أما الاستقامة المذكورة، فهي لزوم طاعة الله تعالى، مع السداد والاعتدال، وتجنب الإفراط والتفريط.

وفي تعريفها قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: "الاستقامة معناها: عدم الميل أو الانحراف، ولو قيد شعرةٍ، وهذا أمر يصعب تحقيقه؛ لأن الفاصل بين الضدين، أو بين المتقابلين، هو أدق من الشعرة، في بعض الأحيان".

والأمر هكذا، جعل الله تعالى لصاحب الاستقامة أكبر الثواب، وأعظم الثمرات، كسعة الرزق، والحياة الطيبة، والأجر الحسن؛ لذا أوصى بها رسول الله أصحابه.

فعن سفيان بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: قُلْ لِي في الإِسلامِ قَولاً لاَ أَسْأَلُ عنْه أَحداً غيْركَ. قَالَ: "قُلْ: آمَنْت باللَّهِ: ثُمَّ اسْتَقِمْ". (رواه مسلم).

وعن جابر بن سمرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أقِيمُوا الصَّلاةَ، وآتُوا الزَّكاةَ، وحُجُّوا واعْتَمِرُوا، واسْتَقِيمُوا يُستَقَم بِكُمْ". (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

والملاحظ أن الآية وجهت الخطاب للنبي، صلى الله عليه وسلم، بالقول: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ"، على الرغم من أنه، "إمام المستقيمين"، لكن العلماء قالوا إن المقصود الدوام على "الاستقامة"، باعتبارها "أعظم كرامة"، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.

وأخيرا، لمن أصابه الشَيب، جاءت البشرى من رسول الله. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفوا الشَيب، فإنه نور المسلم، من شاب شَيبة في الإسلام، كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعه بها درجة". (أخرجه أحمد في المسند، وصححه أحمد شاكر).

قال المباركفوري في "التحفة": "نهى عن نتف الشيب: أي الشعر الأبيض من اللحية أو الرأس، وقال: إنه نور المسلم: أي أن وقاره المانع من الغرور، بسبب انكسار النفس عن الشهوات والفتور؛ هو المؤدي إلى نور الأعمال الصالحة، فيصير نورا في قبره، ويسعى بين يديه في ظلمات حشره".

وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": "التصريح بكتب الحسنة، ورفع الدرجة، وحط الخطيئة.. نداء بشرف الشيب، وأهله، وأنه من أسباب كثرة الأجور، وإيماء إلى أن الرغوب عنه بنتفه؛ رغوب عن المثوبة العظيمة".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف