الأهرام
ماجدة الجندى
«جرابندية» الشهيد منسى
هى حقيبة الحياة، تختزل الضرورى الذى لاغنى عنه لرجل، عزم وتوكل على الله، وخرج مدافعا عن معنى الحياة.. يقولون عنها فى لغة العسكريين «شدة القتال».. من الفعل «شد» فيها ذخيرة المقاتل وسلاحه.. أربطته وضماداته.. جسور تواصله.. ويعرفها العامة من أمثالنا من بسطاء الناس على أنها «الجرابندية».

«الجرابندية» هى حقيبة المقاتل التى يصحبها أو يحملها فوق ظهره على خطوط النار. كل سنتيمتر. كل حيز مهما صغر أو بلغ حجمه، يتضمن وسيلة حياة عن هذه الحياة. «جرابندية» المقاتل لها قواسم مشتركة مع رفاقه، لكنها تحمل بعضا من روحه الشخصية.. كتاب الله. صور أعزاء. خطابات أحباء. فى أحيان كثيرة تشكل محدودية التفاصيل داخل «الجرابندية» رؤى يعجز عن الإفاضة فيها أى ممن يتصورون أنهم يمسكون مفاتيح الكلام. دقائق المحتوى تشكل الجسر ما بين التوق للحياة والشوق لافتداء حيوات من نحب بالروح.

فى أوج الخطر تلاصق «الجرابندية» القلب وسر الإله عند أنبل من خلق وأعمق من البشر. هؤلاء الذين يمنحوننا فرصة أخرى للحياة باستشهادهم. «الجرابندية» للمقاتل ولنا حاملة للأرواح. شاهدة على ما لم نره أو نعشه. حقيبة من النسيج الخشن أفضى إليها وأوصاها: الابن. الحبيب. الزوج. الصديق. الزميل. الجار.. لو استنطقوا خيوط القماش التى يوقع عليها كل مقاتل، شهيدا أو حيا، لتكلمت وروت عن تلك اللحظات العصية على الكلام. لما فتش فيها لبرهة باحثا عن وقود لروحه، من طلة فى ملامح أمه أو تفرس لوجه ابنه. من استعادة لمعان وعود الله لمقاتليه التى هى «الزاد والزواد».. لحظات رطب فيها لسانه برشفة من «الزمزمية» التى علقها فى حجر أو شجر، علها تفقد ولو بعض قيظ حرارتها.

الشهيد الابن الذى شاءت لى الحياة أن يصير توأما لابنى حتى ولو لم يكن من رحم غير رحمي. بلغنى عبر زميله تفاصيل ما ضمته. أراد رفيقه أن يرطب ما أحدثه الفقد، فأجج الإحساس به عن غير قصد، لما سرد ما احتوته وكان الكتاب من بين مفردات الشهادة والحياة. كتاب بعينه يحمله مقاتل إلى خط فاصل ما بين الحياة والموت، أى حظوة وشرف ينالها مثل هذا الكتاب الذى ارتفع إلى مصاف أن يكون وسط شدة قتال فارس نبيل.

لم أكن أنتوى الكتابة لولا أن صديقا عزيزا نبهنى إلى المعنى ينبغى ألا يسجن فى الحيز الشخصي، ولا أن يقتصر تأويله على الفرد الذى كتب الكتاب، لكن القيمة فيما احتواه الكتاب وفى دلالة المحتوي. الكتاب الذى اصطفاه الشهيد وتنقل معه من موقع لآخر كان يروى سيرة جيش مصر، متتبعا الأسئلة البارزة عن تلك الخصوصية التى ينالها فى الروح المصرية منذ أن لاح وجوده وقبل أن تكون مصر التى وحدها مينا فى التاريخ العتيق. الكتاب يحمل سيرة من سبقوا الشهيد أحمد منسى صابر الذى ضم إلى شدة القتال، كتابا عن شهداء وتاريخ الجيش الذى أنتمى إليه. كتاب احتل أثمن حيز وأغلى موضع، كان يشحذ به ذاكرته.

هل يدرك من يمسك بالكلمة، أى مكانة وأى مسئولية يمكن أن تحتلها الكلمة؟ لما أعلمنى رفيق الشهيد أن كتاب «المصريون والحرب» للكاتب جمال الغيطانى كان من مكونات شدة قتال الشهيد منسي، تجاوز الأمر كل حيز أو أثر حميم. واستغرقت فى المعنى والدلالة التى لا يمكن تجاوزها وألا نكون مفرطين فيما تشير إليه رسائل، لابد أنها تصل إلينا لأسباب تلزمنا بدور. كتاب المصريون والحرب صدر أولا عام 1974 كجزء من رسالة صاحبه التى نذر لها نفسه بعد حرب 67، فظل ملازما لجبهة القتال، وعاش تقريبا ما بين منطقة القناة، بمدنها الثلاث وجبهة القتال، فنال فرصة التوثيق لتجربة الشعب المصرى خلال حرب الاستنزاف بشقيه المدنى والعسكرى فى الدفاع عن أرضه، عبر تفاصيل حقيقية ودقيقة للمدنيين والعسكريين، ثم استمر دوره فى التوثيق فى أثناء حرب 73 وقبل ذلك كله أفرد مقدمة نظرية عن تاريخ الجيش المصري.

كنت أعرف أن الفارس النبيل أحمد منسي، ينظم الشعر، وكنت اقرأ أشعاره التى تستنفر الرجال وتدعوهم لاستخراج كل الطاقات على أرض المعارك، وسمعت من أصدقاء له عن غرامه باللغة العربية، لكن ذلك لم يمنع من التساؤل الممزوج بالفخر بمنسى ورفاقه. أى تكوين حمله المقاتل الشهيد أركان حرب أحمد صابر منسي، وأى نسيج للروح التى تحمل السلاح والكتاب معا، وأى عقيدة ثلاثية الأبعاد وربما رباعية، تلضم الإيمان بالله والوطن وبالمؤسسة الوطنية العسكرية بنور المعرفة؟

لو كان كل ما ناله جمال الغيطاني، على كثافة مشروعه أن حمل الشهيد أحمد منسى كتابه «المصريون والحرب» فى شدة قتاله لفاض رضاه. واكتفى. رحم الله كل من يخلصون هذا الوطن .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف