الأهرام
د. فوزى فهمى
الوجود والعيش
يحكى أن صيادًا كان إذا اصطاد العصافير، اكتفى بقصف جناحيها وتركها أسيرة له، وفي أحد الأيام هبت الريح محملة بالتراب، فدمعت عيناه وهو ما زال يواصل عنفه بقصفه أجنحة العصافير، فقال عصفور لزميله: انظر.. ما أرقه علينا، إنه يبكي، فأجابه العصفور الآخر: لا تنظر إلى دمع عينيه؛ بل انظر إلى صنع يديه. هذه الحكاية التي راحت الأجيال ترويها، ليست شطحًا خياليًا خارج أي دلالة؛ لكنها تستبطن معنى جوهريًا خفيًا، من خلال بنية الترميزات التي تجسد وضعًا إنسانيًا محددًا يرسف بالأغلال، إذ ثمة ميزة للرمز أنه قادر على أن يكون ماثلاً مثول الحضور الحسي؛ لأنه يختصر المعنى في موضع التجلي، ويتبدى ذلك واضحًا من سياق التحليل المعرفي لهذه الحكاية، حيث ترمز العصافير إلى كائنات بشرية لم يتح لها الانفكاك من أغلالها، عقب أن أفقدها الصياد المستبد رمز حريتها بقصفه جناحيها، فأصبحت أسيرة احتكار فرادة الأقوى الذي راح يمارس استبداده بنفي تلك الكائنات البشرية عن حريتها التي تمثل فضاءها الطبيعي الذي يحقق وجودها، مستهدفًا بذلك انهيار دفاعاتها تمكينًا له من إغلاق بوابة استحقاقاتها، ومحاصرتها في وجود مغلق مضاد لحريتها سلبًا لوجودها، لتواجه عبء المجهول بعجزها التام عن استعادة حريتها، وفقدانها طموح الوعي بالخلاص، حيث يتوغل ذلك الإحساس في اللاشعور الفردي لتلك الكائنات البشرية، وهو ما يعني إشهار إعلان نهاية تاريخها؛ إذ عندئذً، تفقد ذاتيتها المتحررة، وتتعطل ذاكرتها، ويغيب نتيجة القمع الخارجي والباطني انهمامها بشأنها العام، وتختزل حياتها في العيش وليس في الوجود، وفي النهاية يبقى حاضرًا منتصرًا تاريخ الاستبداد والهيمنة والتسلط، وكل ما يحتكره ذلك الصياد المسيطر بإفراط لا محدود وبلا منازع، مستخدمًا أدواته ومعداته وأجهزته البشرية، المنوط بها وضع استراتيجيات الإخضاع، وآليات السيطرة النفسية والعقلية، حيث بالتزييف يتبدى ذلك التبديد كأنه بناء لمستقبل جديد.

صحيح أن وجود الإنسان في الحياة يعني وجوده مع آخرين، لمتابعة الوجود، وصحيح أيضًا أن متابعة الوجود تتجلى في استمرار الاعتراف الذي يحظى به الإنسان من أقرانه، وصحيح كذلك أن هناك بشرًا يغادرهم الوجود قبل أن تغادرهم الحياة، والصحيح تحديدًا أن متابعة الوجود لا تتحقق إلا بحضور الوعي بقيمة المشاركة انتماءً، ومعنى، وارتقاء، لكن الصحيح أيضًا أن النموذجين من الكائنات البشرية اللذين طرحتهما الحكاية في صورة عصفورين، تشير خصائص الأول أنه قد تماهى مع واقعه الجديد، فأصبح لا يدرك حقيقة وضعه ومصيره، وكأن كل لحظة من حياته قد غدت محض إجهاض لحريته وأيضًا لكل محاولة لاستردادها، وذلك ما يعني عدم اقتداره على استجلاء نفسه وواقعه، إذ بعد اقتلاعه من حرية وجوده لم يتبد تطلعه نحو استعادة ذلك الوجود، حيث فقد الإحساس بخصوصيته، وداهم النسيان ذاكرته، ولم يعد يقرأ حاضره الجديد القراءة الصحيحة، فلم ير الصياد مهاجمًا كقوة سلب لوجوده؛ بل تراءى له أن الصياد من فرط رقته، راح يذرف الدموع حزنًا على مصيرهم، وتلك رؤية خرساء لمعنى أخرس؛ لأنها غير صحيحة، ومضادة له، صدرت في ظل تناسٍ متمادٍ لحقيقة الصياد، وأيضًا إنكار مفضوح لواقعه الشخصي الآني بوصفه فاقدًا لحريته، وكأن على جبهته عصابة حديدية تمنعه من الوصول إلى وعي ذاتي حر لواقعه، ففضل انتهاك الحقيقة، والهروب من ذاته وليس الانفتاح عليها والتواصل معها؛ إذ ذاته مختبئة ساكنة، لذا استحال احتياجًا مدجنًا للعيش ومختزلاً؛ بل مسخًا، أنساه فرح الحرية بسيادته على نفسه واحترامه لها، فأغلق باب الوجود، ولجم ذاته عن المعرفة والتغيير ليستمر في العيش، وذلك ما تجلى في عدم مشاركته زميله في مسار الحقيقة، استنادًا إلى إدراكه المرآوي الزائف لهشاشة مفهوم الوجود لديه.

صحيح أن الإنسان هو كائن المعنى ولا يعيش منفردًا؛ بل في حياة مشتركة مع آخرين، تحقيقًا للتواصل بينهم، وتفكيكًا للمبهمات المرئية الزائفة، فتحًا على آفاق المعنى الأوسع لمتابعة الوجود؛ لذا فإن الإنسان بوصفه كائن المعنى فهو مسكون دومًا بالتساؤلات بحثًا عن حضور منظومة القيم التي تحمي الإنسان من تورط الحياة في إشباعها لحاجات تدمر نسق تلك القيم، فتحيل الإنسان إلى نمط دوني يداهم صاحبه بالنفي من الوجود؛ إذ الصحيح كذلك أن إشكالية الحياة في أنها تضم الجسد الإنساني بوصفه حياة ووجودًا معًا، حيث تتطلب الحياة الارتواء لحاجات الإنسان بوصفها شعورًا بالنقصان، أما الوجود فيتجلى في رغبات هي فيض لحيوية الوجود والامتلاء بالاقتدار، وهما معًا يشكلان ما يسمى بالكيان الإنساني، وهو ناتج ثقافي وفكري يكتسبه الإنسان ويصوغه وفقًا لما يفرضه أو يفترضه، بحرية تامة تجسد خصوصية صاحبه؛ لذا فإن كيان ذلك الكائن البشري الأول في الحكاية لا يشغله الوجود بقيمه من انتماء، ومعنى، وارتقاء؛ بل ما تشغله هي الحياة، أي أن يعيش ويحظى بإشباع الملذات وليغادره الوجود؛ إذ هو لا تعنيه المخاطر التي يتعرض لها وطنه تحت ضغوط ممارسات الاختزال من دولة تمركزت حول ذاتها بوصفها الأقوى- ويمثلها الصياد في الحكاية- وتستهدف فرض الإذعان والولاء والتبعية على غيرها من الأوطان، تعميقًا للتفاوت، ونفيًا لها من الوجود، حيث لا تحكم الدولة الأقوى مبادئ أو ثوابت؛ بل يحكمها تحقيق أهداف الذات بالسيطرة على العالم، انطلاقًا من أنها قوة ضغط فاعلة، تؤمن بالقوة الذاتية وأيضًا تمارس الادعاءات والتلفيقات استحضارًا لتداعيات وصولها إلى تحقيق أهدافها.

إن هذا النموذج السالب للكائن البشري المصطنع العماء وبسلوكه المتجاوز لأي مسئولية تجاه وطنه والوجود، الذي يعتصم بحصن التمتع بالعيش وملذاته كغاية، ولا يستجيب للاندماج الاجتماعي من خلال الفهم المتبادل عبر التواصل، إنما يتخذ من جسده غاية وجوده الحقيقي، دون أن يعاني قلق الوعي أو تأنيب الضمير؛ بل يجرف في طريقه كل ما يشكل إعاقة لحضور غاية متعته؛ لذا فإن هذا النموذج وأمثاله يمارسون داخل أوطانهم مرتزقة تجميل وجه الصياد المسيطر تزييفًا، تدميرًا لدلالته الحقيقية أمام سلطة الحس العام، ويتلقون ثمن ما يحقق لهم الاستمتاع بملذاتهم، لكن آليات الحجب لم تعد تخدع أحدًا.

صحيح أن القوة تفرض قضية صاحبها، وتحديدًا القوة التي ترتكز على مسارات العقل، وترفض الاستحواذ، وتمتلك امتياز الإدراك الفوري الذاتي القادر على استفراغ ألاعيب المضلل حزمًا وشجاعة، وكشفًا فوريًا للخدعة المحبوكة دون محاجة خطابية أو مناقضة أيديولوجية، وذلك ما تجلى في مواجهة الكائن البشري الثاني للكائن البشري الأول المرتزق، الذي راح مراوغًا يمارس التدليس بتجميل وجه الصياد المغتصب لوطنه، بأداء غائي يستهدف الدفاع عن صلاحه بفعل تأثير ما يقوله اقتناعًا به، تحقيقًا لنظرية الاستعمار الجديدة بالاستيعاب أولاً ثم الاستيلاء. لا شك أن الحكاية التي رواها الأقدمون وفقًا لصياغتها المقنعة، حذرت الإنسان من خزي فقدان احترام الذات وازدرائها ثمنًا لخيبات حاجات زائلة، بدلاً من السعي المتواصل في الوجود بوصفه كائن المعنى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف