الأهرام
د.محمد مختار جمعه
فرية يجب أن تدحض (2)
ذكرنا في مقالنا السابق أن من أهم الشبهات وأكثرها فرية على الإسلام ادعاء أنه انتشر بحد السيف, وبينا أن من يمعن النظر في فلسفة الحرب في الإسلام يجد أنها محصورة في دفع الاعتداء ورد العدوان والبغي, ودللنا على صحة ذلك بعدد من النصوص القاطعة, وفي هذا المقال نتناول جانبًا من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت تطبيقًا عمليًّا للفهم الصحيح لنصوص القرآن, فلم تكن غزوة واحدة فيها بغي أو جور أو اعتداء بلا سابقة اعتداء أو كيد أو تآمر أو خيانة من العدو, ففي غزوة بدر عندما علم النبي بمقدم قريش إلى المدينة للإجهاز عليه وعلى أصحابه رضوان الله عليهم جمع صلى الله عليه وسلم أصحابه وجعل يقول: (أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ)، فقام سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فتكلم وأحسن، ثم قام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتكلم وأحسن، ثم قام سيدنا الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنه فقال: “ يا رسول الله، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: “اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ”، وَلَكِنْ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فو الّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ ، حَتَّى تَبْلُغَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ.

وهؤلاء الصحـابة الثـلاثة كانـوا من المهـاجرين ، فأحب رسـول الله أن يعرف رأي الأنصار صراحة، لأن نصوص بيعة العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج المدينة، إذ كانوا قد بايعوا النبي على أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأعراضهم وأموالهم داخل المدينة, وليس خارجها، فكلما تحدث واحد من المهاجرين قال صلى الله عليه وسلم: (أشيروا عليَّ أيها الناس), وهو يريد أن يسمع رأي الأنصار, حتى فطن إلى ذلك قائد الأنصار سيدنا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه، فقال: وَاللهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك ، فوالّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ ، فَسِـرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، فَسُـرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ:(سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ تَعَـالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ) .

أما غزوة بني قينقاع فترجع إلى ما كان من يهود بني قينقاع الذين كان قد ملأ الحقد نفوسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد أن أعزهم الله بالنصر في بدر, فقالوا:”يا محمد، لاَ يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، كَانُوا أَغْمَارًا لاَ يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا “، وكشف جماعة منهم عورة امرأة مسلمة في السوق, فلما هبَّ أحد المسلمين لسترها والدفاع عنها اجتمعوا عليه وقتلوه, فكان لابد من التجهيز لقتالهم ردعًا لبغيهم وخيانتهم فجهز النبي جيشًا لقتالهم وانتقل سريعًا إلى ديارهم وحصونهم، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، حتى اضطـروا إلى الاستسلام والنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم الذي قضى بإخراجهم من ديارهم “. وفي غزوة بني لحيان، كان بنو لحيان هم الذين غدروا بعشرة من الصحابة بالرَّجيع، وتسببوا في قتلهم واستشهادهم. وفي غزوة ذي قَرَد أو غزوة الغابة كان جماعة من أعراب نجد من بني فزارة قد أغاروا على إبل للنبي وأصحابه، وقتلوا حارسها واحتملوا امرأته مع الإبل وفروا نحو نجد، فكان لا بد من ردعهم وتأديبهم.

وللحديث بقية

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف