الأهرام
عبد الرحمن سعد
حسد في اثنتين
يسعى الناس كافةً إلى امتلاك الثروة والصحة والنفوذ والسلطان، لكن قليلا منهم مَنْ يسعى إلى امتلاك العلم، والمال، بالسُبُل السليمة، ثم ينفقهما على الناس، بالضوابط اللازمة.
بهذا أنبأنا الرسول، صلى الله عليه وسلم، إذ أكد أن من سار بين الناس بالحكمة، وقضى بها في نفسه وأهله، وتعلَّمها وعلَّمها للناس، أو أنفق ماله، بعد أن اكتسبه من مصدر حلال، في مواطنه المناسبة، ثقةً بالله تعالى؛ فقد امتلك ما يجعله أهلا لغِبطة الناس حقا، وتمنيهم امتلاك ما لديه، من مال وحكمة، وسيرهم فيهما سيرته.

عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه، قَالَ: "قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا، وَيُعَلِّمُهَا". (متفق عليه).

وعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ". (رواه مسلم).

أجمع العلماء على أن المقصود بالحسد في قوله، صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ": "الغبطة"، وأوضحوا أن تمني النعمة هو القاسم المشترك بينها وبين الحسد، إلا أن الحسد فيه تمني زوالها عن المحسود، وذلك غير جائز، بينما في "الغبطة" لا يتمنى زوال النعمة عن المغبوط، وإن كان يتمنى حصول مثلها له.

قال الإمام النووي في "شرح مسلم": "المراد بالحديث: "لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما".

وقال ابن المنير: "المعنى حصر المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين فكأنه قال: هما آكد القربات التي يُغبط بها".

وقال ابن عبد البر: "كأنه، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا حسد، ولكن الحسد ينبغي أن يكون في قيام الليل والنهار بالقرآن، وفي نفقة المال في حقه، وتعليم العلم أهله".

و"آناء" جمع "آن"، وهو الزمان، وساعات الليل والنهار.

ومعنى الحديث، وفق العلماء، أنه لا غِبطة إلا في خصلتين. الأولى: "رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ"، وفي رواية صحيحة: "فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ"، أي: تغلب على شح نفسه، وأنفق المال في وجوه الخير، ونصرة الحق وأهله، وليس في الشر أو الشهوات.

الثانية: "وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا، وَيُعَلِّمُهَا".. أي: يعمل بها، ويعلمها للناس، احتسابا للأجر من الله.

وقيل إن الحكمة كل ما منع من الجهل، وزجر عن القبيح. وقيل أيضا: هي الإصابة في القول، والرأي، والعمل. كما تأتي الحكمة بمعنى الفقه في الدين، والعلم بالحدود.

وقال الحافظ ابن حجر إن المقصود بها القرآن.

وقد ورد عن سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، في الحديث السابق، وفي حديثي: ابن عمر، وأبي هريرة، في صحيح البخاري، ما يؤيد هذا التفسير.

فعن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ"، فذكر الرجل: "آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار". فذكر القرآن، وهو رأس العلم، بدلاً من الحكمة.

وتأتي "الحكمة" أيضا بمعنى "السُّنة"، إذا ذُكرت مع القرآن، كما في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا". (النساء: 113).

أما من أُوتي علما، ولم يعمل به، ولم يعلمه للناس، أو أُوتي مالا، ولم ينفقه في سُبُل الحق، فهذا لا يُتمنى مثلُ حاله، إذ الجاهل أفضل منه؛ لأنه قد يتعلم ويعمل، بخلاف من أُعطي العلم، أو المال، فاستخدمه في الباطل، أو عطله عن مقصوده، فلم ينفع به نفسه، ولا من حوله.

من هنا كان النبي، صلّى الله عليه وسلم، يسأل ربه: "الهدى"، وهو العلم النافع. و"التقى"، وهو العمل الصالح. و"العفاف والغنى"، أي: العفاف عن الخلق، وعدم تعلق القلب بهم، مع الغنى بالله تعالى، وبرزقه.

فعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أن النبي، صلّى الله عليه وسلم، كان يدعو، فيقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى، وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ، وَالْغِنَى". (رواه مسلم).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف