الوطن
حسن ابو طالب
من مكتبة الإسكندرية إلى «كُشك» الفتوى
شاركت مع كوكبة من المثقفين والمفكرين فى اللقاء الذى نظمته مكتبة الإسكندرية على مدى يومين للتعرف على رؤاهم لتطوير أنشطة المكتبة، فى ظل قيادة الدكتور مصطفى الفقى، كان هناك الكثير من الآراء والأفكار التى طُرحت بأريحية وصدق، وهدفها الأول زيادة فاعلية المكتبة فى عملها الرئيسى، وهو دعم الثقافة والتنوير والفكر العلمى بين ربوع المصريين، ومساندة المكتبة فى الأدوار التى تقوم بها فى مكافحة التطرف وتعزيز الروابط الثقافية بين مصر ومحيطها العربى والأفريقى، فضلاً عن دورها العالمى الذى اكتسبته فى فترة عقد ونصف هى عمر المكتبة.

حين جاءت الفرصة للحديث ركزت على أمرين؛ الأول أن على المكتبة أن تبتعد عن ممارسة السياسة حتى ولو كان هناك فراغ قد يُغرى البعض للاشتباك معه، فتلك ليست مهمة المكتبة ويجب ألا تكون، كما أنه من الصعب أن نُكلف المكتبة بأنشطة وأدوار هى لمؤسسات رسمية أخرى حتى وإن تقاعست تلك المؤسسات فى مرحلة من الزمن، والثانى أن على المكتبة أن توازن بين دورها العالمى وهو الغالب نسبياً ودورها المحلى / الوطنى، وأن تخرج من شرنقة الإسكندرية وما حولها جغرافياً إلى رحاب الوطن الواسع، وأن تبحث عن الوسائل والآليات التى تجعلها أكثر جذباً للشباب وإبداعاته الفكرية والفنية، واقترحت أن يقوم أحد مراكز البحوث والدراسات فى المكتبة بعمل استطلاع رأى لمجموعة من الشباب المصرى فى معظم محافظات مصر لمعرفة كيف يرون المكتبة ومدى صلتهم بالأنشطة الثقافية والفكرية التى تقوم بها، وهى عديدة جداً، ولكنها ليست منتشرة كما يجب أن تكون، أو بمعنى آخر لا تصل إلى الفئات التى يجب أن تصل إليها تلك الأنشطة ومخرجاتها المختلفة، على أن تؤسس على نتائج الاستطلاع تحركات وآليات جديدة.

كما اقترحت أيضاً أن تدرس، ولاحظ عبارة تدرس هذه، المكتبة إنشاء فرعين، ليسا بحجم أو اتساع المكتبة الأم، لها فى محافظتى الإسماعيلية وأسوان، الأولى لأنها الآن مركز للتواصل الجغرافى بين مدن القناة وسيناء ومحافظة الشرقية، وهو دور سوف يزداد مع تشغيل الأنفاق التى تصل من جهة الإسماعيلية إلى عمق سيناء وسيكون لها دور كبير فى تحويل المحافظة والمدينة تحديداً إلى بؤرة نشاط متعدد الأنواع والاتجاهات، وهو ما يجب تدعيمه بالنشاط الفكرى والثقافى، وهو من صميم دور المكتبة حسب قناعتى المحدودة. أما فرع أسوان فأظن أنه ضرورى لأنه يخدم الصعيد الأعلى الذى نعرف أنه محروم من كثير من الأمور الضرورية، ولا أتصور أن شبابه قادر على الاشتباك مع أنشطة المكتبة على النحو المرغوب.

فكرتى الرئيسية من هذين الاقتراحين هو أن تسهم المكتبة فى بناء حالة حراك ثقافى وإبداعى فى الأماكن والمناطق المحرومة من فعل ثقافى وإبداعى لأسباب معروفة وليس المجال للخوض فيها، وأن تصل أكثر إلى قطاع الشباب من خلال الاتصال المباشر، وأن تعزز دورها فى مكافحة التطرف فكرياً من خلال تعزيز التفكير العلمى والإبداع الفكرى الحر. بعض الآراء التى قيلت فى الحوار كانت تركز أكثر على فكرة التواصل الرقمى من خلال الموقع الإلكترونى للمكتبة، وربما تطوير تطبيقات أخرى لتصل إلى شرائح أوسع فى المجتمع، وهى آراء جيدة ومُطبقة بالفعل، ولا تلغى إطلاقاً أهمية وضرورية الاشتباك المباشر بين المتلقى وصاحب الرسالة الفكرية والإبداعية، وقد يقول قائل إن عنصر التكلفة هنا مهم فى حسم الأمر، فتطوير موقع إلكترونى أقل بكثير من إنشاء فرع حتى ولو كان محدوداً ومجرد رمز يبيح قدراً من التواصل والاحتكاك المباشر، لا سيما مع فئة الشباب المتعطش لمن يروى ظمأه المعرفى والإبداعى، ولكن يظل السؤال، ورغم انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى، فهل يكفى الموقع الإلكترونى فى تعزيز دور المكتبة فى مكافحة التطرف مثلاً؟ إذا نظرنا إلى ما تقوم به مواقع الفكر المتطرف سنجد أن مهمتها هى جذب العناصر إلى هذا المحتوى الفكرى، ثم بعد ذلك تبدأ مرحلة التجنيد بكل مراحله من خلال التواصل المباشر واللقاءات المنتظمة ودورات القراءة الموجهة ودورات أخرى للتدريب على السلاح ومهارات القتال، فاستخدام الوسائل الرقمية هو فقط مرحلة من بين مراحل، ولا تلغى إطلاقاً أهمية التواصل المباشر مع الفئة المستهدفة، وهذا هو المطلوب من وجهة نظرى، أن تستخدم كافة الأدوات المتاحة الرقمية والعادية فى الوصول إلى الفئات المستهدفة، حتى ولو تطلب ذلك المزيد من الإنفاق، فالمعركة تتعلق بالحاضر والمستقبل ولا يجب البخل عليها بأى جهد أو مال.

إن الارتكان فقط على الانتشار الرقمى لتعزيز المكانة وتوصيل الرسالة ورغم أهميته القصوى سيظل قاصراً على الحد من انجذاب قطاع من الشباب إلى التنظيمات المتطرفة، فالاتصال المباشر له تأثير مهم لا يجب التقليل من أهميته، وبالتالى يجب التفكير فى طرق الوصول إلى الفئات المستهدفة بكل الوسائل الممكنة، ويبدو أن هذه الفكرة هى التى حفزت لجنة الفتوى التابعة لمجمع البحوث الإسلامية على إنشاء عدد من المكاتب، فى محطات المترو تسهيلاً للتواصل مع الجمهور الراغب فى معرفة أمر من أمور دينه، هنا سارع الكثيرون فى النقد الشديد والسخرية على نطاق واسع، بعض الملاحظات جاءت فى محلها من قبيل مدى التأكد من علم ومعرفة الذين سيتم تكليفهم بهذه المهمة، ومدى تدريبهم على تقديم الفتاوى السليمة، ومدى ارتباط تلك الفتاوى بالمنهج الوسطى الذى يُصر عليه الأزهر وتدعمه الخبرة الحياتية المصرية، وملاحظات ونقد آخر قام على تشويه الفكرة شكلاً ومضموناً والسخرية من القائمين عليها، وهو ما لا يقدم حلاً لمشكلة كبرى نتحدث عنها كثيراً وتتعلق بكيفية تصحيح السلوك العام المرتبط بالقيم الدينية ومبادئه العظيمة، ولا نبحث عن حلول عملية لها.

اعتقادى المتواضع أن كل ما يؤدى إلى التواصل المباشر بين أهل العلم الثقاة وبين الجمهور العام هو أمر محمود، فرغم انتشار المساجد فإن كثيراً من القائمين عليها غير قادرين على إقناع الناس بصحيح الدين، وفى كثير من الأحوال تظل هناك أسئلة لدى الناس بحاجة إلى إجابة مطمئنة، وهو ما لا يحدث إلا من خلال الاشتباك المباشر مع شيخ ثقة أو عالم محبوب، وفى ظنى أن تجربة أكشاك الفتوى أو مكاتبها بحاجة إلى فترة اختبار مع تصحيح بعض الجوانب الشكلية الخاصة بالتنفيذ.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف