المصريون
احمد السيد على ابراهيم
النسيان آفة كل انسان
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وعلى آله وصحبه ... وبعد :
فإن الله عز وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم ، واستخلفه في الأرض لغاية عظيمة هي عبادة الله عز وجل ، ولكن قد تعتري الإنسان بعض العوارض التي تعيقه عن هذه الغاية ومنها النسيان ، لذلك كان لابد من الكلام عن هذه الآفة بشيء من التفصيل ، فنقول وبالله التوفيق :
الوقفة الأولى : تعريف النسيان :-
للنسيان معنيان : أحدهما : ترك الشيء عن ذهول وغفلة وهو خلاف التذكر .
الثاني : ترك الشيء عن عمد .
الوقفة الثانية : أصل النسيان :-
عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لمَّا خلقَ اللَّهُ آدمَ مسحَ ظَهرَه فسقطَ من ظَهرِه كلُّ نسمةٍ هوَ خالقُها من ذرِّيَّتِه إلى يومِ القيامةِ وجعلَ بينَ عيني كلِّ إنسانٍ منهم وبيصًا من نورٍ ثمَّ عرضَهم علَى آدمَ فقالَ أي ربِّ من هؤلاءِ قالَ هؤلاءِ ذرِّيَّتُك فرأى رجلًا منهم فأعجبَه وبيصُ ما بينَ عينيهِ فقالَ أي ربِّ من هذا فقالَ هذا رجلٌ من آخرِ الأممِ من ذرِّيَّتِك يقالُ لَه داودُ فقالَ ربِّ كم جعلتَ عمرَه قالَ ستِّينَ سنةً قالَ أي ربِّ زدهُ من عمري أربعينَ سنةً فلمَّا قضيَ عمرُ آدمَ جاءَه ملَك الموتِ فقالَ أولم يبقَ من عمري أربعونَ سنةً قالَ أولم تعطِها ابنَك داودَ قالَ فجحدَ آدمُ فجحدت ذرِّيَّتُه ونسِّيَ آدمُ فنسِّيت ذرِّيَّتُه وخطئَ آدمُ فخطئت ذرِّيَّتُه } ( رواه الترمذى وصححه الألبانى )
الوقفة الثالثة : سبب النسيان :-
اعلم أخي أن الشيطان هو سبب النسيان ، فهو يوسوس للعبد حتى يصرفه عن الطاعة أو يوقعه في المعصية دون أن يدري ، وقد بين الله عز وجل هذه الحقيقة في آيات عدة ، فقال تعالى حاكيًا عن يوشع بن نون : { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } ( الكهف : 63 ) وقال حاكيًا عن صاحب يوسف في السجن : { فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين } ( يوسف : 42 ) وقال مخاطبًا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } ( الأنعام : 68 ) وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فقد قال : { إنْ أَنْسَاني الشيطان شيئًا من صلاتي فليسبح القوم وليصفق النساء } ( رواه أبو داود ، والترمذي وضعفه الألبانى ، وقال له شواهد يتقوى بها )

الوقفة الرابعة : النسيان آفة كل إنسان لم يسلم منه أحد حتي الأنبياء :-

أ- فقد نسي آدم عليه السلام : حينما أعطى داود من عمره أربعين سنة كما سبق وذكرنا ، ونسي حينما نهاه ربه عن الأكل من شجرة التفاح فأكل منها فقال تعالى : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما } ( طه :115 )
ب- ونسي موسى عليه السلام : حينما قال له الخضر : { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا } ( الكهف : 70 ) فعارضه موسى حين قلع الخضر ألواح السفينة ، ولما ذكره الخضر قال له موسى : { لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } ( الكهف : 72 ) وفي الحديث : { فكانت الأولى من موسى نسيانًا } (رواه البخاري )
ج- ونسي يوشع بن نون : وهو من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى : حينما رأى الحوت يخرج من المكتل ويتدلى في البحر أن يخبر موسى بأمر الحوت ، فقال تعالى : { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } .
د- ونسي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : { فسلم في سجدتين } . ( رواه البخاري ومسلم ) . { وقام في ثنتين من الظهر ونسي الجلوس } ( رواه البخاري ومسلم ) { وصلى الظهر خمسًا } ( رواه الجماعة )
الوقفة الخامسة : النسيان لا يجوز في حق الله سبحانه :-
إن النسيان نقص ، ومن ثم فهو يجري على الإنسان ، ولا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى ؛ لأنه منزه عن كل عيب ونقص ، قال تعالى : { وما كان ربك نسيا } ( مريم : 64 ) وقال : { لا يضل ربي ولا ينسى } ( طه : 52 ) ، ومن ثم فمن الخطأ أن يقول الإنسان عند وفاة آخر: " ربنا افتكره " ، إذ أن هذه الكلمة توهم نقصًا لله سبحانه وتعالى بأنه كان ناسيًا له ثم تذكره ، وهذا لا يجوز .
الوقفة السادسة : جواز النسيان في حق النبي صلى الله عليه وسلم والحكمة من ذلك :-
اختلف العلماء في ذلك على رأيين :
أصحاب الرأي الأول : ذهبوا إلى منع السهو والنسيان في حقه صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إنما ينسى قصدًا ويتعمد صورة النسيان لِيُسَنّ ، وهو مذهب شاذ مروي عن الباطنية وجماعة من المتصوفة .
أصحاب الرأي الثاني : ذهبوا إلى جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم ، وهو مذهب الجمهور، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : { إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني } ( رواه البخاري ومسلم )
ذهب عامة العلماء والأئمة إلى أنه يقع نسيانه فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع ؛ فيا ذكره القاضي عياض كما هو ظاهر في القرآن والأحاديث ، لكن شرطوا أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه .
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحكمة من نسيانه تكمن في التشريع ، أي بيان ما يترتب على النسيان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إني لأَنْسى أو أُنَسيَّ لأَسُنَّ } . ( رواه مالك في الموطأ ) . فلو لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم ، لما علمنا الحكم المترتب على النسيان ، ومثال ذلك حكم من ترك الجلوس للتشهد الأوسط نسيانًا وقام إلى الركعة الثالثة
تنبيه :-
قد يعترض البعض على أن الشيطان ينسي الأنبياء ؛ بأن إجماع الأمة على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشيطان ، وهذا مردود عليه بأن مثل هذا من فعل الشيطان ليس فيه معنى التسلط بوسواس ونزغ على مثل موسى ويوشع بن نون ، ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وإنما هو بشغل خواطرهم بأمور أخرى وتذكيرهم من أمورهم ما ينسيهم الذي نَسُوه .
الوقفة السابعة : نعمة الله عز وجل على نبيه بعدم نسيان القرآن :-
أنعم الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بنعم كثيرة ، من أجلها نعمة حفظ القرآن الكريم وعدم نسيانه بالرغم من كونه أميّا لا يقرأ ولا يكتب ، فقد كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي فلا يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بأولها مخافة أن ينساها فنزلت : { سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله } ( الأعلى : 6 ، 7 )
الوقفة الثامنة : ومن معجزاته المتعلقة برفع النسيان :-
أخرج مسلم في صحيحه عن الأعرج قال : سمعت أبا هريرة يقول : { إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واللهُ الموعدُ ، كنت رجلاً مسكينًا أخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ملء بطني ، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : { من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني } ، فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه ثم ضممته إليَّ ، فما نسيت شيئًا سمعته منه }
الوقفة التاسعة : نوعا النسيان :-
ينقسم النسيان إلى نوعين هما :
1 النسيان الفطري :-
تعريفه : هو ترك الشيء عن ذهول وغفلة وهو خلاف التذكر .
حكمه : يعد هذا النسيان من الأعذار الشرعية بين العبد وربه .
دليله : 1- من القرآن : قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ( البقرة : 286 ) وفي الحديث الصحيح أن الله عزَّ وجلَّ قال إجابة لهذا الدعاء : { قد فعلت } وفي رواية قال : { نعم } ( أخرجه مسلم ) .
من السنة : قوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } ( رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني )
والمراد بالوضع : رفع الإثم المترتب على التقصير في الإتيان بالمطلوب بسبب الخطأ أو النسيان أو الإكراه .
2 النسيان المتعمد :
تعريفه : هو ترك الشيء عن عمد وقصد .
أنواعه : ينقسم النسيان المتعمد إلى نسيان ممدوح ونسيان مذموم :
النوع الأول : النسيان الممدوح :
ومن أمثلته نسيان المرء إساءة الآخرين له والعفو عنهم ، قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره على الله } ( الشورى : 40 )
النوع الثاني : النسيان المذموم :
وهو نسيان أمر الله وشرعه بترك ما أمر به وفعل ما نهى عنه متعمدًا ، وجزاء من يفعل ذلك نسيان الله له ، قال تعالى : { نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون } ( التوبة : 67 ) ، وقال : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } ( الحشر : 19 ) ، وقال : { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم } ( السجدة : 14 ) ، وقال : { وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } ( الجاثية : 34 ) ، وقال : { كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } ( طه : 126 ) ، ونسيان الله تعالى بمعنى إهمالهم كما أهملوا طاعته .

الوقفة العاشرة : ضوابط النسيان المؤثر في التخفيف :-
الضابط الأول : لا يعتبر النسيان عذرًا في حقوق العباد : لأنها مبنية على المشاحة والمقاضاة ، فلو باع رجل طعامًا لآخر ثم نسي بيعه فأكله فلا إثم عليه في أكله ، ولكن يجب عليه ضمان ما أكل - أي دفع ثمنه للمشتري - أما حقوق الله سبحانه وتعالى فمبنية على العفو والمسامحة ، وهي تتمثل في جانب العبادات والقربات ، فإذا وقع النسيان فيها سواء أكان بترك مأمور أم بإرتكاب محظور فإن الإثم مرفوع ، وكذا ما يترتب عليه من عقاب أخروي ، لأنه مبني على القصد والنية ، والناسي لا قصد له فلا إثم عليه .
الضابط الثاني : يكون النسيان مؤثرًا بالتخفيف أو الإسقاط في حقوق الله تعالى إذا كان هذا الحق غير قابل للتدارك ، أما إذا كان قابلاً للتدارك فلا يسقط بالنسيان : لأن مقصود الشارع تحصيل مصلحته ، فمثال ما يمكن تداركه قوله صلى الله عليه وسلم : { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك } . ( رواه البخاري ومسلم ) وقوله : { من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه } ( رواه البخاري ومسلم ) . ومثال ما لا يمكن تداركه نسيان صلاة الجمعة والجهاد .
الضابط الثالث : أن لا يكون جانب التقصير ظاهرًا من المكلف : يقول الرازي في تفسيره : { إن الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون ملومًا ، وأما إذا واظب على القراءة لكنه بعد ذلك نسي فها هنا يكون معذورًا } أهـ .
والله الموفق .

** نائب رئيس هيئة قضايا الدولة والكاتب بمجلة التوحيد
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف