بوابة الشروق
ايهاب الملاح
أرابيسك
من بين فئات المجتمع المصرى المتعددة، تبرز طائفة المثقفين باعتبارها واحدة من أكثر الفئات تعقيدا وتركيبا بل وتناقضا أيضا، ولا أظن كاتبا مصريا، فى القرن الأخير، استطاع أن يجسد عمق تناقضات هذه الفئة، ويصور مشكلاتها وتعقيدات تكوينها والجذور البعيدة لاغتراب معظمها، مثل نجيب محفوظ؛ خذ عندك: «اللص والكلاب»، «ثرثرة فوق النيل»، و«المرايا»، وهى فى ظنى أهم وأصدق ما كتب عن المثقفين المصريين خلال الثلث الثانى من القرن العشرين.

«المرايا» لنجيب محفوظ من أخطر الكتب التى ألفها بعد 1967؛ فهى تستعرض ــ عبر خمس وخمسين شخصية ــ صورا فنية تنبض بالحياة والروعة، مجموعة من اللقطات تعبر عن شخصيات حقيقية مع بعض التصرف عاشت فى حياة نجيب محفوظ الوظيفية والعامة، ويعكس من خلالها رؤيته لمجريات الأحداث فى مصر؛ سياسيا واجتماعيا وثقافيا، بالتحديد خلال الفترة من 1930 وحتى 1970.

فى «المرايا» ستجد كل ما تبحث عنه من أنماط وأشكال ونماذج! معرض بشرى غاية فى الثراء وتشريح فى منتهى الذكاء لنماذج وأنماط من المثقفين المصريين؛ إذا تجولت فى هذا المعرض الزاخر فإنك سترى المثقف المثالى المتعالى، والواقعى الدنىء، ومدعى الثقافة، والانتهازى الرخيص، والمدعى المتسلق، وعديم الأخلاق، سيمر بك المثقف الفاسد والمتحول والاستغلالى.. إلخ
براعة ما صاغه نجيب محفوظ فى «المرايا» تتجلى ــ ضمن عناصر كثيرة ــ فى تلك الشخصيات التى هى فى واقع أمرها، تعبير عن رؤى إبداعية وإنسانية تتشكل خصائصها فى نهر الزمن: الماضى والحاضر والمستقبل. ولذا فإنها نماذج حية، ليست مقصورة على زمانها ووقتها، فهى موجودة ما وجدت الشروط التى تجعلها كذلك!.

ولربما كان «محفوظ» واعيا تماما بأنه يقدم لونا من الكتابة سيتطور فيما بعد إلى ما سماه البعض بـ«كتابة النميمة» أو «أدب التلسين»، لكن ولأنه كاتب استثنائى فقد عبر بحمولاته المعرفية والأسلوبية والفنية من تلك الدائرة الضيقة المباشرة الحادة، إلى أدب إنسانى حقيقى وافر المتعة والتأمل والحضور.

استطاع محفوظ بعبقريته الفذة أن يستخلص تجريدات هذه الشخصيات، وأن يخرجها من إطارها المحدد باسم متعين وتاريخ مرجعى إلى «نموذج إنسانى» عام، يمكن أن تقابله الآن، وتتعرف عليه وجها لوجه!.

بسهولة ويسر، ستجد نماذج من «المرايا» تحيا بيننا الآن، تتصرف بذات السلوك الذى صوره محفوظ بذات الدوافع، وتنطبق عليها ذات الأوصاف التى كتبها قبل ما يقرب من أربعين سنة من الآن! وإذا لم تصدقنى، فاقرأ الأسطر التالية، واسأل: من منا لم يقابل هذا النموذج ــ أو ذاك ــ فى حياتنا الثقافية الراهنة:

ــ «قرأت له أكثر من رواية، ولكننى لم أستطع أن أتم واحدة، ولم أجد ضرورة لقراءة ما قرأت منها بعناية أو اهتمام، وأدهشنى أننى لم أجد عنده موهبة تذكر ولا على المستوى المحلى».

ــ «وترك حديثه انطباعا فى نفسى لا يمكن أن يوصف بالثقة. كان كثير المرح عادى الذكاء أقرب إلى السطحية ذا طلاء ثقافى بلا أعماق».

ــ «وهو فى نظر الجميع محب للفن وربما للشهرة أكثر ولكن بلا موهبة يعتد بها مما دفع به إلى طريق ملىء بالمتاعب، فقد صمم على أن يكون أديبا وأن يكمل ما ينقصه من موهبة بماله».

ــ «وكان يكتب تجاربه. ثم يعرضها على المقربين من الأدباء والنقاد، ويجرى تعديلات جوهرية مستوحاة من إرشاداتهم، بل يقبل أن يكتب له بعضهم فصولا كاملة، ثم يدفع بالعمل إلى أهل الثقة منهم فى اللغة لتهذيب الأسلوب وتصحيحه، غامرا كل صاحب فضل بالهدايا والنقود تبعا للظروف والأحوال. ويطبع الرواية على حسابه طبعة أنيقة فتخرج من المطبعة ـ على حد قول بعضهم ـ كالعروس، ومن ثم يوجه عنايته إلى بعض النقاد فيملأ نقدها أنهار الصفحات الأدبية، وينفق أضعاف ذلك على ترجمتها حتى فرض نفسه على الحياة الأدبية».

فانظر.. وقارن.. وتأمل!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف