الدستور
مدحت بشاى
مصر.. والبرج الحجازي!
كنت قد أشرت فى مقالى الأسبوعى السابق بجريدتنا الغراء «الدستور» إلى رسالة حررها الكاتب «عز الدين فشير» إلى رئيس الجمهورية عبر مقال له تخلص فيه فجأة وإلى حد كبير من كل تلك البهلوانيات التحليلية الفوقية الغائمة كما عودنا فى كتاباته، وقد يكون السبب أن فحوى المقال كان يراه رسالة وجب فيها المُباشرة والوضوح والمنطقية، كما أن المقال بمثابة طلب لأولى الأمر مُحررًا على صفحات جريدة رأت ــ للأسف ــ أن تستضيف كل نوعيات الكُتاب مهما تجاوز البعض منهم لأى أبعاد قد تتعلق بتسفيه أو إهانة جهود وإنجازات مؤسسات أو جهات مهنية أو حتى أفراد وجماعات وطنية، ولا تتعجب ولا تندهش عزيزى القارئ عندما يبررون ذلك تحت عناوين كاذبة تدعى فيها الحرص على كفالة حرية الرأى والتعبير، بينما لا يقيمون أى اعتبار لحقوق المُهان والمجنى عليه فى العيش بكرامة وأمن وسلام!!
نعم، فقد جاء الخطاب لـ«فشير» واضحًا مُطالبًا الرئيس بإلغاء عقوبة الإعدام، وفى هذا التوقيت بالذات بما يتماهى مع مطالبات التصالح والتقارب مع أهل الشر والإرهاب والإفساد فى الأرض، ومؤكدًا أن رسالته محاولة مخلصة لوقف إزهاق أرواح لا يحق لنا إزهاقها، ولو باسم القانون، فخلال أيام ــ كما ذكر الكاتب ــ ستقوم السلطات بإعدام مواطنين مصريين تمت إدانتهم- وسيلحقهم آخرون- ما لم يتدخل الرئيس لوقف التنفيذ، وإلى حد قول «الفشير» إن إقدام السلطات العامة على إعدام من قبضت عليهم وأودعتهم السجون ودرأت عن المجتمع شرورهم يتخطى حدود القصاص إلى الانتقام والقتل العمد!!
وبعد نشر المقال بأقل من أسبوع، تحتفى الجريدة نفسها بمقال لكاتب ينتمى إلى نفس المدرسة فى الأداء- وتشير للمقال على صفحتها الأولى بشكل تُعده سبقًا وطرحًا مهمًا- فى مجال الكتابات التى تبدو مبهرة عبر سياقات استعراضية مدعومة بشهادات من التاريخ فى غير محلها والاحتكام لنظريات فلسفية وأطر أيديولوجية وسياسية ومصطلحات فكرية غربية تُسحر عيون وعقول القارئ بعد لىّ مفاهيمها ووضعها فيما لا يفيد الاستشهاد به والتزود الفكرى بمضامينها.. والكاتب هنا هو «مصطفى حجازى» والمقال تحت عنوان «مصر.. والبرج العاجى».
والمقال يُعد حلقة فى سلسلة كتابات أرى أنها باتت تمثل البديل المراوغ لمقالات الدعوة إلى مصالحة الإخوان ومن لف لفهم حتى يمكن الانفلات من التقريع والسب والشتيمة المباشرة من جانب أغلبية ترفض الصلح بكل أشكاله، وذلك بعد أن نالت مقالات «كمال أبوالمجد» و«حسن نافعة» و«سعد الدين إبراهيم» وغيرهم رد الفعل الذى يستحقونه من أشكال الرفض الذى وصل لحد توجيه الإهانات والشتائم عبر تعليقات القراء أو مداخلات الغضب من جانب مشاهدى البرامج التليفزيونية الليلية على ما يطرحون عبر كل مراحل التحول السياسى التى عاشتها البلاد بعد ثورتى يناير ويونيو.
يستهل الكاتب مقاله بسؤال: «هل سمعتم عن نبى مُرسَل أو مُصلِح فى التاريخ أتى للناس برسالة أو منهج إصلاح عنوانه كسب الرزق أو سد الجوع أو دحر الخصوم..؟!» وفى معرض إجابته يؤكد «لقد أرسل الله تعالى رسله فى الأغلب الأعَمّ إلى شعوب كَسَرَها الفقرُ وقَهَرَها الجهلُ وأذَلَّتْها الحاجة.. وليس عرب الجزيرة إبان الرسالة المحمدية منا ببعيد ولا بنو إسرائيل قبلهم كذلك..» ويضيف «لقد جاءت الرسالة إلى مجتمع جاهلى.. مجتمع همجى.. جُلُّه من الرِعاع والدهمَاء، الذين عَصرَتهُم مَذَلَّة الحياة وشَظَف العيش جُوعًا وعُريًا وشتاتًا وجهلًا.. ولم يوصف كِبارُهم إلا بالغِلظة والفَظَاظَة وسوء الخُلق والطوية وسفاهة العقل.. ولم يعِ مَن وعوا رسالة السماء وقتها لأنها كانت وعودًا للنجاة من الجوع والعُرى والمذلة.. ولكن وعوها وحَمَلُوها بمفردات هى رأس الفلسفة ورأس الحكمة..!».
ورغم أن السؤال وإجابته يطرحه الكاتب كتمهيد لتوجيه الانتقاد للحالة المصرية الآن، حيث الاهتمام بالتفاعل ــ من وجهة نظره ــ مع أزمات الغذاء والفقر قبل الوعى برسالة الحكمة التى تمنح الفلسفة الأكبر من الوجود والاستمتاع بحياة جيدة.. وإذا تجاوزنا أمر القياس على مضمون رسائل الأديان ودعواتها المقدسة الربانية، وهى مقارنة لا تجوز، فالنظم الحاكمة وقوانينها الوضعية وعلاقاتها الإنسانية أمر مغاير لعلاقة الإنسان بخالقه، وأما بخصوص الأحكام المطلقة فإن الأديان جاءت لأهل الفقر والتخلف فقط لأمر عجيب، وأسأل الكاتب الباحث السياسى: وماذا عن أهل الحضارات العظيمة التى سبقت نزول الرسالات ومنها التى بشرت برسالة التوحيد وقبل زمان الرسالات بزمان، وتعاملوا مع الفكر والفلسفة والعلوم والعمارة بريادة عبقرية ما زالت تمثل أسرارًا تحاول الأجيال فك شفراتها؟!!.. ألم يكن هؤلاء وأحفادهم بمدنيتهم وحضارتهم على كوكب الأرض واستقبلوا تلك الرسالات، وبات منهم المسيحى واليهودى والمسلم؟!
ويضيف الكاتب «هذا فى شأن المُقَدَّس «يقصد الأديان».. الذى لم تَحِدْ عنه الحكمة الإنسانية حين تبغى الصلاح والترقى.. فما جاءت الثورة الفرنسية- التى غيرت وجه العالم- للبشرية وللمعدمين الذين قامت من أجلهم إلا بحديث «الحرية والإخاء والمساواة»، وبهم وفيهم خاضت فرنسا تجربتها صعودًا وهبوطًا، وقادت العالم تنويرًا، وغيّرت معنى الدولة والحكم والتنمية والعدل...».
أليس غريبًا وساذجًا أمر مقارنة فعل ثورة عمرها لا يتجاوز ٤ سنوات عقب عقود كثيرة سادها الفساد والظلم وحكم نظم ديكتاتورية غبية خلفت حالة من التراجع الفكرى والحضارى والاقتصادى، إضافة لمواجهة إرهاب أسود شاركت النظم الحاكمة السابقة بالتعاون مع شياطين وأمراء الدم فى كل الدنيا فى تربيته واحتضانه؟!.. أقول ومقارنتها بالثورة الفرنسية التى دامت عشر سنوات، ومرت عبر ثلاث مراحل أساسية أذكر بها الكاتب:
المرحلة الأولى: يوليو ١٧٨٩ - أغسطس ١٧٩٢، فترة الملكية الدستورية: تميزت هذه المرحلة بقيام ممثلى الهيئة الثالثة بتأسيس الجمعية الوطنية واحتلال سجن الباستيل، وإلغاء الحقوق «الفيودالية»، وإصدار بيان حقوق الإنسان ووضع أول دستور للبلاد.
المرحلة الثانية: أغسطس ١٧٩٢ ــ يوليو ١٧٩٤، فترة بداية النظام الجمهورى وتصاعد التيار الثورى، حيث تم إعلان إلغاء الملكية ثم إعدام الملك وإقامة نظام جمهورى متشدد.
المرحلة الثالثة: يوليو ١٧٩٤ ــ يوليو ١٧٩٩، فترة تراجع التيار الثورى وعودة البرجوازية المعتدلة التى سيطرت على الحكم ووضعت دستورًا جديدًا وتحالفت مع الجيش، كما شجعت الضابط نابليون بونابرت للقيام بانقلاب عسكرى ووضع حد للثورة وإقامة نظام ديكتاتورى توسعى. وعليه عوض النظام الجمهورى الملكية المطلقة، وأقر فصل السلطات وفصل الدين عن الدولة والمساواة وحرية التعبير. وعلى الصعيد الاقتصادى تم القضاء على النظام القديم الإقطاعى، وفتح المجال لتطور النظام الرأسمالى وتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة وحذف الحواجز الجمركية الداخلية.. إلخ، وفى الإطار الاجتماعى تم إلغاء الحقوق الإقطاعية وامتيازات النبلاء ورجال الدين ومصادرة أملاك الكنيسة، كما أقرت الثورة مبدأ مجانية وإجبارية التعليم والعدالة الاجتماعية وتوحيد وتعميم اللغة الفرنسية.
أين وجه المقاربة والتشابه ى. صاحب البرج الحجازى؟!.. فحديثكم عن الحرية والكرامة وقولكم «ولن يفى أو يشفع الإمعان فى الثرثرة عن الإطعام والتشغيل وحفظ الأمن.. لأنه ظاهر «فعل صاخب» لا علاقة له بجوهر «الإنجاز الواجب» على معيار الضرورات الإنسانية والهدى الإلهى قبلها» لقول يوتيوبى لا يعايش الهم المصرى وكم التحديات التى نواجهها على الأرض، كيف لا يشغلنا أمر الأمن والإطعام والتشغيل.. كيف لنظام عاين تهاوى المنظومة الأمنية بكاملها فى أيام قليلة ألا يكون شغله الشاغل إعادة الأمن؟.. كيف لنظام عاين كيف ضرب الفساد كل أحشاء الدولاب الحكومى، ثم ما كان من عودة العمالة فى الخارج واستضافة آلاف اللاجئين العرب بعد سقوط أنظمتهم، تراجع مدخرات العاملين فى الخارج، وغيرها الكثير من مصادر الدخل.. يبدو أن البرج الحجازى ما بات فى إمكانه رصد أننا بلد يعيش حالة حرب شرسة وضارية.. ويا كاتبنا الأنيق العبارة لو تخيلت فقط كم التعويضات التى تُصرف بشكل شبه يومى لأهالى الشهداء والمصابين وحدها لعرفت أن نزيف الدم الطاهر يلازمه نزيف اقتصادى واجتماعى غير مسبوق على مدى التاريخ المصرى، ولم يعد لدينا خيارات أو وقت للتحاور مع سكان أبراج الأحلام العبثية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف