الأهرام
يوسف القعيد
استحالة الكتابة
ماذا يفعل الكاتب عندما يكتشف أنه لم يعد قادراً على الكتابة. ويقف أمام حائط لا يعرف ماذا يفعل. إنها حالة تسمى استحالة الكتابة. سبق أن تناولها كاتب إسبانى هو إنريك فيلا ماتاس فى كتابه: بارتلبى وشركاه، أو كتاب اللا. والكتاب تكريم لبطل قصة هيرمان ميلفن التى تحمل الاسم نفسه، وتنبه إلى ما فى الحياة من كمائن.

الكتاب الذى بين يديَّ الآن عنوانه: الكاتب والآخر وهو لمؤلف أقرأ اسمه لأول مرة: كارلوس ليسكانو. ترجمته إلى العربية نهى أبوعرقوب. وصدرت طبعته الأولى ضمن مشروع كلمة من الإمارات العربية المتحدة سنة 2012.

أما وصول الكتاب إليَّ فلذلك قصة. فقد أحضره من الإمارات صديق العمر جمال الغيطاني. ولأن مكتبته مكتبتى وما أمتلكه من الكتب ملك له. أهدانى نسخة. وقَّع الصفحة الأخيرة منها. تلك كانت عادته فى القراءة. بل ودوَّن تاريخ ومكان قراءة العمل. كتب: الأربعاء 19/11/2012، ثم كتب: الجو من دبى إلى القاهرة. والكتاب 180 صفحة. وقراءته تشكل استغلالاً مفيداً لوقت يضيع منا ونحن بين السماء والأرض.

كتبت للكتاب مقدمة كارينا بليكسن ومعذرة، فمعظم الأسماء التى أدونها أقرأها لأول مرة رغم أننى أقرأ منذ ستينيات القرن الماضى وهى أرغوانية الجنسية، وأستاذة للأدب والنقد الأدبي، وقد نشرت دراسة عنوانها: كلمات تحت الحراسة المشددة، عن أعمال كارلوس ليسكانو مؤلف هذا الكتاب.

تقليد جيد أن يقدم الكاتب ناقده الذى يهتم بأعماله. وتتحول المقدمة إلى جسر عبور بين القارئ وعمل لكاتب لم يقرأه. إنها تأخذ بيد القارئ إلى دروب العمل وتوصله إلى رسائله السرية، وإن كان البعض يفضل أن تأتى الدراسة فى آخر الكتاب حتى لا تجعل القارئ ينطلق إلى الكتاب محملاً بمواقف مسبقة هى رؤى صاحب المقدمة.

تكتب صاحبة المقدمة: يستعيد الكاتب بهذا العمل المنتمى لمرحلة النضج جذوره وخساراته ومحطات إعجابه وصراعه الشاق ضد الموت. وسينتهى ذلك بأن يكون انتصاراً للحياة جزئياً ومؤقتاً. فحين يغدو الكاتب شيئاً أكثر من هاو يكتب عندها كى يكتب وحسب. لأنه لا يستطيع عمل أى شيء آخر لأن الكتابة هى آفته وشغفه وتعاسته.

يبدأ الكاتب كتابه:

- من ليلة إلى ليلة أنتظر أن يحدث شيء. أعرف أنه لن يحدث. ولكنى إن لم أنتظر فلن يحدث بالتأكيد. وبحلول ليلة جديدة مماثلة لسابقتها لم يحدث فيها شئ. أدرك أن ما حدث حقاً هو أننى مرت عليَّ تلك الساعات التى مضت فى حالة انتظار. وهذا فى حد ذاته شيء. إنه الجسر الذى يسمح بالعبور من ليلة لأخري. إذ ثمة ليال أسوأ، ليال بلا انتظار. ثمة صعوبة فى أن أكتب.

إن عدم الكتابة بالنسبة لأى كاتب حقيقى تعنى الموت. ليس الموت بمعنى الاختفاء. ولكن الموت بمعنى الرحيل عن الدنيا. فالكتابة قد تكون ابتكارا لنفس الكاتب من جديد. وإقامة علاقة مغايرة معه. وما دام الكاتب قادراً على الكتابة يمكنه أن يقول إننى ما زلت حياً لأنى لم أقرر الموت بعد. لكن كاتبنا يشعر بكسل عظيم أمام ابتكار قصة وجعلها قابلة للتصديق والبحث عن تفاصيل لها. فهو روائى وربما أن الرواية هى ذلك الجنس الأدبى الذى يقبل كل شيء، يا ترى هل يستطيع الروائى أن يحكى شيئاً ما عن مهنة الحكي؟.

إن الكتابة هى الآتي: أن تمضى دون أن تعرف إلى أين ستصل دون أن تعرف حتى إن كنت ستصل إلى أى مكان، الكتابة فن ساكن دون أن يعرف الكاتب ماذا يعنى هذا. ومشكلة صاحب الكتاب أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر سوى الكتابة. إنه يحيا من أجل أن يكتب. فالقضية ليست عجزه عن هجر الكتابة. إنما لأنه لا يملك شيئاً آخر يتعلق به. مع أن الأدب فن ساكن، معنى أن يكتب الكاتب أن يكون جالساً بلا حراك فى قلب الهيجان المطلق أن تكتب يعنى أن تقيم وزناً للآخر. ولا تحدق فى أعماق نفسك فقط. فمن الآخر يأتى كل شيء. وإن لم يوجد هذا الآخر على الكاتب أن يخترعه.

ويعترف الكاتب فى لحظة صدق:

- لم يكن الوصول إلى الأدب هيناً عليّ، والعيش على أرضه أمر أعقد بكثير من الاقتراب منه. ها أنا تائه فى شكوكي، ضائع الوجهة، لا أؤمن بما أفعل، أتوقف عن الكتابة لعدة أسابيع، والأشهر، لماذا أكتب؟ لماذا الخضوع إلى قانون البقاء وحيداً فى قلب الصمت، لساعات، وأيام، وسنوات؟ من أجل القيام بشئ يبدو أحياناً كلمة ولكن لن تكون له أبداً تلك القيمة التى يجب كما نعلم أن تكون للأدب؟.

ولأننا نقرأ اسم الكاتب لأول مرة، أدون مؤلفاته الأخرى كما جاءت فى ثنايا كتابه: قصر الطاغية باكورة أعماله، صدرت 1992، كتبه عندما كان فى السجن 1981، أعماله الأخري: ذكريات الحرب الحديثة، الطريق إلى إيساكا، المشعوذ، مشاهدات متنوعة، المياه الراكدة وقصص أخري، وبورتريه لزوجين، وجزء من مدينة كل الرياح، ونصوص سردية ومسرحيات، يعترف بأنه عندما ينظر لكل هذا الآن يدرك أنه كاتب يعانى الإفراط. وأنه أودع كل ما استطاع أن يفعله فيما كتبه. أيضاً له ثلاثة كتب فى تعليم اللغة الإسبانية نشرها فى أوروبا. ومن كتاباته نفهم أنه قضى فترة فى السجن. كان مناضلاً ضمن حركة ثورية اعتمدت النضال العسكرى وحرب العصابات، لتحقيق أهدافها بين العامين 1960، 1970. وهى من أهم الثورات ضد الإسبان.

هذا كاتب وصل إلى لحظة لا يستطيع أن ينهى كتابة رواية. ينقح ويبحث ويشطب، بلا جدوي. وأمام رعب بياض الأوراق يستسلم للتفكير فى اللحظة الراهنة. غارقاً فى تأملاته الليلية وذكرياته بعبارات بسيطة التركيب وخالية من الزخرفة.

بشفافية البوح الصادق يستعيد الكاتب العزلة والعذاب ومصارعة الموت متسائلاً عن ماهية الكتابة وجدواها لديه كإنسان. ولدى الآخر فى أعماقه: الكاتب. شارحاً بعض الاستراتيجيات فى صراعه مع الآخر، قرينه الذى يمتلك هوية خاصة غير قابلة للتحول. بقى أن تعرف أن هذا الكاتب فى الثامنة والستين من عمره.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف