الوفد
أمينة النقاش
كى لا نعيد إنتاج الأزمات
لم أعد أتحمس للتواجد فى المناسبات العامة، لأن النقاش فيها يبدأ ولا ينتهى بالأوضاع المعيشية الصعبة، وحالة الغلاء الفاجر الذى بات يذل المواطنين ويقف بينهم وبين مواصلة الحياة بكرامة.
لم يعد لدى شىء أقوله للشكاوى التى أسمعها بالليل والنهار سوى الدعوة الصادقة بالصبر والتحمل، لكنها للأسف رغم صدقها لا تطعم فما، ولا تشفى مريضا، ولا تتيح فرصة مرضية للتعلم والتنقل والعمل، ولا توفر مسكناً للزواج ولساكنى المناطق العشوائية!
كان عالم الاقتصاد الأمريكى «ديفيد لاندز» هو من قال إنه لا يوجد مثل التاريخ معلما للناس، كى يواجهوا الحقائق. و«لاندز» هو مؤلف الكتاب الشهير بنوك وباشوات الذى أصدره فى بدايات القرن الماضى، وترجمه للعربية قبل أكثر من نصف قرن الدكتور عبدالعظيم أنيس، ويروى فيه مؤلفه بالوثائق قصة القروض التى سهل الممولون الأجانب للخديو إسماعيل أخذها بزعم تحديث مصر وتمدينها حتى تصبح قطعة من أوروبا، وحينما عجزت الخزانة المصرية عن تسديد فوائد تلك الديون الباهظة وقاوم الخديو إسماعيل الشروط التعسفية التى تم فرضها بتعيين وزيرين فرنسى وإنجليزى للتحكم فى إيرادات الخزينة المصرية، تم عزله عن العرش، ولم يتوقف الأمر بعد ذلك عند احتلال بريطانيا لمصر، بل تجاوزه إلى تكبد مصر أعباء سداد أقساط هذه الديون وفوائده حتى عام 1943 أى لما يقرب من سبعين عاماً.
فى العصر الحديث غير الاستعمار الغربى وسائله التقليدية من الاحتلال العسكرى المباشر كما جرى فى عهد أسرة محمد على، إلى شروط للهيمنة الاقتصادية عن طريق تقديم قروض للدول، مع إلزامها وفقا لتلك الشروط بتسديد أصل القرض بالإضافة لفوائده، فضلا عن تقديم دراسات تنطوى على أرقام تتسم بالمراوغة والخداع عن تأثير القرض على النمو الاقتصادى، بما يسفر عن استفادة أقلية من مواطنى البلد تزداد ثراء، فيما تقبع الغالبية من الفقراء فى فقرهم ويزدادون فقرا بينما تؤكد أرقام الدراسة التى تغرى بأخذ القرض، أن ما جرى هو بمثابة تقدم اقتصادى، وهو الدور الذى يقوم به صندوق النقد الدولى بتوجيهه للسياسات الاقتصادية للدولة الدائنة، دون أدنى اهتمام بالآثار الاجتماعية الكارثية الناجمة عن تلك الاختيارات.
روشتة الصندوق باتت محفوظة، وهى شروط مالية لا علاقة لها بما يسمونه إصلاحاً اقتصادياً، لأنها تفرض على الدولة الالتزام بسياسة تقشف مالى لإحداث توازن فى ميزانيتها، يضمن للصندوق قدرتها على القيام بسداد القرض وفوائده.
وفى هذا السياق يتم إلغاء كل الدعم المخصص لرفع مستوى معيشة الطبقات الشعبية المحرومة، ويخفض الانفاق على الخدمات العامة فى مجالات التعليم والصحة والتنقل والإسكان الشعبى، وتخفض قيمة العملة الوطنية، وتلغى القيود على الواردات وتداول العملات الاجنبية، وتتم خصخصة المشاريع المملوكة للدولة، وتلغى القيود المفروضة على المشاريع الاستثمارية الاجنبية، وتسن القوانين التى تضمن حقوق المستثمر الأجنبى الذى يحول كل أرباحه إلى الخارج.
النتيجة المنطقية لسياسة شروط الصندوق هى ما يحدث فى مصر الآن، كما سبق وجرى للدول التى لجأت لسياسة الاقتراض من الصندوق، ولم تكن تملك من القدرات ما يمكنها من مقاومة الشروط الاقتصادية القاسية التى يفرضها: موجات تضخم وغلاء غير مسبوقة فى سوق منفلت العيار مفتقد لأية رقابة، وتجار معدومو الضمائر لا هم لهم سوى مضاعفة أرباحهم، وسلطة تنفيذية تبدو مرتبكة وعاجزة أمام سطوة التجار والمحتكرين الذين يملكون الثقة بأنهم ممثلون لا يستهان بنفوذهم داخل مجلس النواب يحمون مصالحهم، لتتحمل أغلبية المواطنين من الفقراء ومحدودى الدخل أعباء هذا القرض، وما أسفر عنه من نتائج أضرت بمستويات معيشتهم، وكشفت دون مواربة عن أن القائمين على الأمور فى بلادى لا يتعلمون من تجارب التاريخ ولا يواجهون الحقائق، بل يعيدون إنتاج أزمات الاقتصاد المصرى!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف